في يومنا الوطني الخامس والتسعين، لا نقف عند محطة الاحتفال بالماضي المشرق فحسب، بل ننظر إلى المستقبل بعين الإنجاز والفخر، لقد شهدت المملكة العربية السعودية، تحت مظلة «رؤية 2030»، تحولًا جذريًا لم يقتصر على إعادة هيكلة الاقتصاد، بل امتد ليشمل صناعة مجتمع حيوي ووطن مزدهر، في قلب هذا التحول، تقف منظومة الصناعة المحلية كشريان حيوي، تحولت من قطاع تابع إلى محرك أساسي للتنمية الاقتصادية، وعلى مدار السنوات الماضية، شهدت هذه المنظومة نقلة نوعية وجذرية، لم تقتصر على الكم فقط، بل امتدت لتشمل الكيف والابتكار، معززةً بذلك الاكتفاء الذاتي ومُقلصةً الاعتماد على النفط، هذا التقرير يوثق رحلة تطور هذه المنظومة، من المصانع العسكرية إلى ملاعب كرة القدم، مرورًا بمدن المستقبل ومشاريع العقار العملاقة. صناعة الثروة الحقيقية: الجيل السعودي الواعد قبل أي صناعة مادية، أدركت المملكة أن ثروتها الحقيقية تكمن في شبابها، وأن بناء الأجيال القادمة هو أكبر استثمار وأهم صناعة. ولذلك، تُعد صناعة جيل واعد من الشباب أولوية قصوى، تهدف برامج "رؤية 2030" إلى تطوير منظومة تعليم وتدريب متكاملة، تربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل الحديثة، تم إطلاق مبادرات نوعية تهدف إلى تطوير المهارات الرقمية والقيادية، وتعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال. الشباب السعودي اليوم ليس مجرد مستقبل المملكة، بل هو حاضرها، يتسلح بالمعرفة والمهارات اللازمة لقيادة عجلة التنمية في قطاعات واعدة مثل: الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والطاقة المتجددة. إن الاستثمار في الشباب هو أفضل استثمار في مستقبل مستدام، وهو ما يجعل المملكة الشابة قادرة على تحقيق إنجازات غير مسبوقة، برامج الابتعاث التي تضاعفت أعدادها، والجامعات التخصصية، ومراكز التدريب المهني مثل: معهد مسك للقيادة، ومؤسسة الملك خالد الخيرية، جميعها تعمل في تناغم لإنشاء كوادر مؤهلة لكل ما يفرزه سوق العمل من مهن ووظائف جديدة، ليكون هذا الجيل هو وقود الحاضر والمستقبل. صناعة الدواء: من الاستيراد إلى الأمن الصحي لم يعد الأمن الصحي مجرد شعار، بل أصبح واقعًا ملموسًا بفضل التوسع في صناعة الدواء المحلية، كانت المملكة تعتمد بشكل شبه كلي على استيراد الأدوية، لكن اليوم، تُشكل المدن الصناعية مثل: سدير والجبيل مراكز حيوية لإنتاج المستحضرات الدوائية. استراتيجية "رؤية 2030" تستهدف توطين أكثر من 30 % من الأدوية والمستلزمات الطبية. وقد تم إبرام شراكات مع كبرى الشركات العالمية مثل: "فايزر" و"جلاكسو سميث كلاين"، لإنشاء مصانع مشتركة لنقل المعرفة وتدريب الكوادر الوطنية، هذا التطور لا يضمن توافر الأدوية الحيوية في أوقات الأزمات فقط، بل يُسهم في تعزيز البحث العلمي والابتكار في مجال العلوم الصيدلانية، ما يضع المملكة على خارطة البحث والتطوير الدوائي عالميًا. اليوم، تُنتج مصانع سعودية أدوية معقدة، وتستثمر في تقنيات حيوية متقدمة، ما يعزز من قدرة المملكة على الاستجابة للتحديات الصحية المستقبلية. الصناعات العسكرية: قوة صناعية مستقلة تُعد الصناعات العسكرية أحد أبرز قصص النجاح في "رؤية 2030"، فبعد أن كانت نسبة التوطين لا تتجاوز 2 %، قفزت إلى 19.35 % في نهاية عام 2023، هذا النمو لم يكن مجرد صدفة، بل جاء نتيجة استراتيجية واضحة قادتها الهيئة العامة للصناعات العسكرية (GAMI) والشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI). لم يعد الهدف يقتصر على تجميع الأسلحة، بل امتد ليشمل التصنيع الكامل للمركبات المدرعة، والطائرات المسيرة، وأنظمة الدفاع الجوي، والذخائر. هذا الإنجاز لا يُعزز من استقلالية القرار العسكري فقط، بل يخلق آلاف الوظائف النوعية للشباب السعودي في مجالات الهندسة والتصنيع، ويُسهم في نقل أحدث التقنيات الدفاعية إلى الداخل. اليوم، تُصنع في المملكة طائرات بدون طيار، وتُنتج قطع غيار الطائرات الحربية، وتُجمع أنظمة الرادارات المتقدمة، ليكون الدفاع والأمن بأيدي أبنائه وتقنياتهم. الصناعات الغذائية: نحو الاكتفاء الذاتي والتصدير بفضل الدعم الحكومي والتقنيات الزراعية الحديثة، تحولت الصناعات الغذائية في المملكة من الاعتماد على الاستيراد إلى تحقيق الأمن الغذائي. الشركات المحلية لم تعد مجرد مُنتج محلي، بل أصبحت قادرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية، تُسهم التقنيات الحديثة مثل الزراعة المائية والبيوت المحمية في تقليل استهلاك المياه وزيادة الإنتاجية. كما شهدنا نموًا ملحوظًا في قطاعات الألبان، والدواجن، والمياه، بالإضافة إلى تطوير منتجات غذائية مبتكرة تُلبي احتياجات السوق المحلية وتفتح آفاقًا للتصدير. اليوم، تُعد المملكة من أكبر منتجي التمور في العالم، وتتوسع في إنتاج الخضراوات والفواكه محليًا، ما يضمن وفرة الغذاء وجودته للمواطنين والمقيمين. صناعة الأجهزة الكهربائية: جودة محلية بمعايير عالمية شهد قطاع صناعة الأجهزة الكهربائية نموًا لافتًا، حيث تجاوزت المصانع السعودية مرحلة التجميع إلى التصنيع الكامل. تُنتج اليوم مكيفات الهواء، والثلاجات، والغسالات، وحتى الأجهزة الإلكترونية الصغيرة بجودة عالية وتصاميم حديثة. هذا التطور لم يكن ليتحقق لولا الاستثمار في خطوط الإنتاج الحديثة والتركيز على معايير الجودة العالمية، ما جعل المنتج السعودي قادرًا على المنافسة بقوة في السوق المحلية، ويُقلص من الحاجة إلى الاستيراد، كما أن هذه الصناعة تُسهم في توفير مئات فرص العمل في المصانع ومراكز البحث والتطوير، مما يعزز من المحتوى المحلي. صناعة السفن والخدمات البحرية يُعد مجمع الملك سلمان العالمي للصناعات والخدمات البحرية في رأس الخير أحد أضخم المشاريع الصناعية في العالم. هذا المجمع لا يقتصر دوره على بناء وصيانة السفن التجارية وناقلات النفط العملاقة فحسب، بل يمتد ليشمل تصنيع السفن الحربية والمنصات البحرية. هذا الإنجاز الضخم يُعزز من القدرات الدفاعية للمملكة، ويُقلص من التكاليف التشغيلية، ويخلق آلاف الوظائف في قطاع حيوي ومتخصص. كما أنه يساهم في تعزيز مكانة المملكة كمركز لوجستي عالمي، بفضل موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة البحرية. صناعة السيارات.. المحركات تنطلق نحو المستقبل تحول حلم تصنيع السيارات إلى حقيقة ملموسة، وقد تم إطلاق مصانع لإنتاج السيارات الكهربائية بالتعاون مع شركات عالمية مثل: "لوسيد"، التي أقامت مصنعها في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية بجدة، ليصبح مركزًا إقليميًا وعالميًا. هذا التطور لا يعني فقط توفير سيارات بأسعار تنافسية، بل يُسهم في بناء سلسلة قيمة متكاملة تُشمل صناعة قطع الغيار، والبطاريات، وأنظمة التحكم الإلكترونية. كما أن التركيز على السيارات الكهربائية يُعكس التزام المملكة بالتحول إلى الطاقة النظيفة، ويضعها في صدارة الدول التي تُواكب المستقبل في هذا القطاع. صناعة الملابس.. الأناقة الوطنية والعالمية شهدت صناعة الملابس تحولًا كبيرًا نحو إنشاء مصانع متخصصة في إنتاج الألبسة الجاهزة، والملابس الرياضية، والزي الرسمي، تُسهم هذه المصانع في تلبية الطلب المحلي، وتُقلّل من حجم الاستيراد، وتُوفّر فرص عمل للمواطنين. كما أن هذا القطاع يُشهد نموًا في مجال تصميم الأزياء، حيث تُطلق العلامات التجارية المحلية مجموعات تعكس الهوية السعودية، وتُشارك في عروض أزياء عالمية، مما يُسهم في الترويج للمنتج الوطني على مستوى عالمي. صناعة السياحة: بناء وجهة عالمية لم تعد السياحة مجرد قطاع ترفيهي، بل أصبحت صناعة قائمة بذاتها تُشكل أحد أهم ركائز "رؤية 2030"، مع إطلاق التأشيرة السياحية، وتطوير المشاريع العملاقة مثل: "نيوم"، ومشروع البحر الأحمر، و"الدرعية"، تهدف المملكة إلى جذب 150 مليون زائر بحلول عام 2030. هذه المشاريع ليست مجرد أماكن سياحية، بل هي منظومات اقتصادية متكاملة تُشمل الفنادق الفاخرة، والمطاعم العالمية، والمرافق الترفيهية، ما يُسهم في توفير مئات الآلاف من الوظائف ويعزز من إيرادات الاقتصاد غير النفطي. صناعة الفضاء.. آفاق لا حدود لها في تحول نوعي، دخلت المملكة مجال صناعة الفضاء كقطاع استراتيجي للمستقبل، تأسيس هيئة الفضاء السعودية هو خطوة أساسية لتعزيز الأبحاث الفضائية، وتوطين التقنيات، والمساهمة في الاقتصاد العالمي للفضاء. وقد شهدنا إنجازات ملموسة، كان أبرزها إرسال رواد فضاء سعوديين إلى محطة الفضاء الدولية، وهو ما يمثل نقلة نوعية في القدرات العلمية والتقنية للمملكة، ويفتح الباب أمام استثمارات في صناعة الأقمار الصناعية وخدمات الفضاء. التجارة الرقمية.. قفزة نحو الاقتصاد الحديث شهد قطاع التجارة الرقمية نموًا هائلاً، مدفوعًا بزيادة الاعتماد على الإنترنت وتوفر منصات الدفع الإلكتروني، لم تعد التجارة تقتصر على المتاجر التقليدية، بل أصبحت تشمل البيع عبر الإنترنت، وتطبيقات التوصيل، والمنصات الرقمية. تدعم الحكومة هذا القطاع من خلال تطوير البنية التحتية الرقمية، وتقديم حوافز للشركات الصغيرة والمتوسطة، ما يُسهم في خلق آلاف الوظائف ويُعزز من التنافسية الاقتصادية للمملكة. صناعة المؤتمرات والمعارض.. وجهة عالمية للأعمال تُعد صناعة المؤتمرات والمعارض محورًا جديدًا لجذب الاستثمارات والأعمال، تحولت المملكة إلى وجهة عالمية لاستضافة الفعاليات الكبرى، مثل مبادرة مستقبل الاستثمار (FII)، ومؤتمر ليب التقني. هذه المؤتمرات لا تُسهم فقط في جذب رؤوس الأموال، بل تُعزز من مكانة المملكة كمركز عالمي للأعمال والمعرفة، هذا القطاع ينمو بسرعة، ويخلق فرصًا اقتصادية في مجالات الضيافة، والنقل، والخدمات اللوجستية، والتقنية. صناعة العقار: مدن المستقبل والبيئة الحضرية تحول قطاع العقار من مجرد بناء وحدات سكنية إلى صناعة متكاملة تُعيد تشكيل المدن السعودية، بفضل برامج الإسكان التي سهلت امتلاك المنازل، والمشاريع العقارية الضخمة مثل: مشروع الرياض الخضراء، ومشروع مسار مكة، ومشروع القدية، أصبح القطاع العقاري محركًا أساسيًا للاقتصاد. هذه المشاريع لا تقتصر على بناء المباني، بل تُنشئ بيئات حضرية متكاملة تُشجع على الابتكار والاستدامة، وتُعزز من جودة الحياة. صناعة السينما والثقافة: إحياء هوية ثقافية بعد غياب دام لعقود، عادت صناعة السينما والثقافة بقوة لتصبح محركًا اقتصاديًا وثقافيًا، مع إطلاق هيئة الأفلام، وافتتاح دور السينما، استقطبت المملكة استثمارات عالمية في إنتاج الأفلام المحلية والدولية. هذا القطاع لا يُسهم فقط في بناء هوية ثقافية متجددة، بل يخلق وظائف جديدة في مجالات الإنتاج، والإخراج، والتمثيل، والتقنية، المهرجانات السينمائية مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي أصبحت منصات عالمية تروج للمواهب السعودية. صناعة كرة القدم: شغف رياضي واقتصاد مُربح لقد تجاوزت كرة القدم كونها مجرد رياضة شعبية لتصبح صناعة حقيقية في المملكة، بفضل تحويل الأندية إلى شركات، والاستثمارات الهائلة في استقطاب أبرز نجوم العالم، تحول الدوري السعودي للمحترفين إلى أحد أكثر الدوريات متابعةً في العالم. هذه الصناعة تُدرّ مئات الملايين من الدولارات من حقوق البث، وعقود الرعاية، وبيع المنتجات، كما تُسهم في تعزيز السياحة الرياضية، وتُشكل رافدًا اقتصاديًا جديدًا ومهمًا. يوم وطني بخطى ثابتة نحو المستقبل في يومها الوطني الخامس والتسعين، تُقدم المملكة العربية السعودية للعالم نموذجًا فريدًا في التنمية. إن ما تحقق من إنجازات في مختلف القطاعات، من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الإبداعية، يؤكد أن "رؤية 2030" ليست مجرد طموحات، بل هي خطة عمل شاملة تُحول الأحلام إلى حقائق ملموسة، كل مصنع، وكل مشروع، وكل صناعة جديدة تُضاف إلى هذا الصرح، تُقربنا أكثر من تحقيق الهدف الأسمى: بناء اقتصاد متنوع ومستدام، ومجتمع حيوي، ووطن مُزدهر. شراكات سعودية مع كبرى الشركات لتوطين صناعة الدواء توطين صناعة الأسلحة من توجهات رؤية 2030 صناعة السيارات داخل المملكة يحقق بدايات جيدة