تحل علينا اليوم ذكرى اليوم الوطني وتثير في نفسي أفكاراً وتأملات عما وصلنا إليه حتى الآن، فأتذكر فصول الدراسة وزميلاتي اللاتي رافقتهن في رحلة الدراسة والمعلمين الذين ساهموا في تكوين شخصياتنا والفرص التي حلمنا بها يوماً ما. أتذكر كل ذلك بينما أنظر لابني وابنتي اليوم وهما يخوضان نفس الدروب التي خضتها، ولكن وسط خيارات كثيرة لم نكن لنتخيلها. فلم يعد التعليم مجرد وسيلة للحاق بركب التطور فحسب، بل أصبح المسار الذي يتعين علينا خوضه بنجاح لنحتل موقع الريادة ونمسك بدفة القيادة. فالتعليم ليس مجرد ركيزة أساسية في عملية التحول، بل هو التحول ذاته. اليوم، لا يقتصر دور المنظومات التعليمية القوية على تخريج أفراد يتحلون بالمهارات القطاعية اللازمة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى بناء القدرات الوطنية وتعزيز القيم المطلوبة لمستقبل مستدام. ولا يمكن لقطاعات الطاقة والصحة والذكاء الاصطناعي والسياحة التي تدفع قاطرة تحقيق رؤية 2030 أن تحقق المنشود وأكثر ما لم يكن لديها "مورد ثابت ومرن" يغذيها بالمواهب والكفاءات. وكما استثمرت المملكة في البنى التحتية لقطاعات النقل والخدمات الرقمية، فهي تولي اهتمامها كذلك بتطوير منظومة التعليم وتعتبره أصلاً استراتيجياً في بناء اقتصادها. طلابنا ومعلمونا ليسوا مجرد مشاركين في المنظومة التعليمية، وإنما أصبح لهم دور فعال يزيد تأثيره يوماً تلو الآخر على ساحة التغيير وتصميم تجربة المستفيد. وفي هذا السياق تجسد العديد من المبادرات، ومنها مبادرة المجلس الاستشاري للمعلمين على سبيا المثال فقط، عمق التزام المنظومة التعليمية بالتعاون مع أصحاب المصلحة والخبرة المباشرة بهذه المنظومة الذين يعيشون تفاصيلها بشكل يومي. وفي هذا السياق، يتعين الحفاظ على توافق المنظومة التعليمية مع الأولويات الوطنية ومع متطلبات المهارات المستقبلية، وهو ما يعني دمج تعليم الذكاء الاصطناعي في مختلف التخصصات وتقديم تدريب فني يتوافق مع احتياجات القطاعات المختلفة وضمان تطور المناهج التعليمية بسرعة تواكب سرعة تطور السوق. دخول أدوات الذكاء الاصطناعي في منظومة التعليم أمر حتمي، حيث أنه لا يسير بنهج تقنيات التعليم الأخرى في الانتشار، فهذه التقنية لا تنتظر إجراءات المشتريات لتدخل المدرسة والفصول، بل انتشرت بشكل طبيعي في المدارس وبين المعلمين والطلاب حول العالم. ولكن هذا الطموح يتطلب تكوين وعي واضح بالتحديات والمخاطر التي تترافق مع عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المنظومة التعليمية وإدراك كيفية التعامل معها. ولا يمكن أن يتحقق أي عنصر من هذه العناصر بمعزل عن الآخر، فالأمر يتطلب إقامة شراكات راسخة بين الحكومة وقطاع الأعمال والمؤسسات التعليمية، شراكات لا تركز فحسب على الإصلاح وإنما على الاستعداد الفعلي ورفع جاهزية المنظومة التعليمية. ولا شك أن توفير سبل الوصول إلى التعليم مسألة مهمة للغاية، ولكن الأهم هو ضمان جودة هذا التعليم ومواكبته لسوق العمل. ومن هنا تظهر ضرورة امتلاك المعلمين للأدوات اللازمة وهو ما يعني ضرورة أن تسعى المملكة إلى بناء منظومات تدعم التعلم المستمر والتوجيه والتطوير المهني في جميع المراحل العمرية. حسب تقرير تنمية القدرات البشرية لعام 2025، يتوقع حوالي 9 من كل 10 سعوديين أن يساهم التعلم المستمر في خلق فرص جديدة لهم. ويضطلع برنامج تنمية القدرات البشرية، من خلال مبادراته المتنوعة، بدور محوري في رسم ملامح هذا المستقبل بدءاً من مرحلة التعليم في الطفولة المبكرة وانتهاء بالتدريب المهني، ما يضمن تطوير مهارات الكوادر في كل مرحلة من مراحلهم العمرية. ويرى كثير من السعوديين، لاسيما الذين نشأوا قبل وضع رؤية 2030، أن هذا التحول أكثر من مجرد سياسة عامة، بل هو تحول له أثر شخصي مباشر. فلا نزال نذكر عندما كان التعلم يعني التكيف مع المنظومات القديمة. وهذه النقلة لم تأتِ عن طريق الصدفة وإنما جاءت عن قناعة واستثمار وطني وإرادة حديدية ممن عملوا في صمت لتعبيد الطريق أمامنا حتى وصلنا إلى هنا. فصلابة المنظومة لا تبنى على البنية التحتية وحدها وإنما أيضاً على الأفراد وقدرتهم على التعلم والتكيف والقيادة. فالتعليم هو البنية التحتية غير المرئية التي تضمن أن كل استثمار آخر في الصحة والطاقة والابتكار والتقنية يقوم على أساسات تساعده على الازدهار. وبصفتي إحدى اللواتي يخضن هذه الرحلة الممتعة في بناء هذا القطاع وهذه المنظومة، فأنني أفخر بما وصلنا إليه حتى الآن وأتطلع إلى رؤية المزيد في المستقبل القريب.