كيف تتعامل بذكاء مع تضارب التعليمات في بيئة العمل؟ في بيئات العمل الحديثة، لم يعد الموظف يواجه فقط ضغوط إنجاز المهام أو تحديات التطوير المهني، بل أصبح عليه أيضًا التعامل مع مواقف معقدة تتعلق بتضارب التعليمات بين مستويات الإدارة المختلفة. تخيل موظفًا يتلقى توجيهًا مباشرًا من مسؤول رفيع المستوى في الشركة، بينما مديره المباشر لم يكن على علم بهذا التوجيه. هنا يظهر الإشكال الحقيقي: هل ينفذ الموظف أوامر المسؤول الأعلى فورًا ويخاطر بإحراج مديره المباشر؟ أم يلتزم بتعليمات مديره ويغامر بفقدان ثقة الإدارة العليا؟ هذه المعضلة ليست مجرد موقف عابر، بل هي سيناريو متكرر في مؤسسات كثيرة، ويعكس في جوهره تحديًا مرتبطًا بوضوح الصلاحيات، وآليات الحوكمة، ومدى نضج الثقافة التنظيمية. الموظف في هذه اللحظة يجد نفسه في "منطقة رمادية"؛ أي مساحة غير واضحة المعالم من حيث القرار الصحيح. فتنفيذ أوامر الإدارة العليا مباشرة قد يُفسَّر على أنه تجاوز للتسلسل الإداري وإضعاف لمكانة المدير المباشر، بينما تجاهل تلك الأوامر قد يبدو على أنه ضعف في الالتزام، أو حتى تقاعس عن تنفيذ ما تراه الإدارة العليا مهمًا. الخبراء يؤكدون أن هذه المواقف تتطلب قدرًا عاليًا من الذكاء العاطفي والمهني، لأن الحل ليس أبيض أو أسود، بل يحتاج إلى مزيج من اللباقة والتواصل والقدرة على إدارة الموقف بهدوء واحترافية. المعايير الدولية في الإدارة، مثل ISO 37000 الخاصة بحوكمة المؤسسات، وISO 9001 لإدارة الجودة، وISO 21500 لإدارة المشاريع، تضع أُطرًا واضحة للتعامل مع هذه المعضلات. هذه المعايير لا تنظر إلى التسلسل الوظيفي باعتباره مجرد شكل تنظيمي، بل كآلية أساسية لضبط الصلاحيات، وضمان العدالة، وتقليل فرص حدوث تضارب في التوجيهات. بمعنى آخر، وجود قنوات رسمية للتوجيهات ليس إجراءً شكليًا، بل هو حجر الزاوية الذي يضمن وضوح المسؤوليات، ويُجنب الموظفين الوقوع في حيرة بين أوامر متضاربة. كلما التزمت المؤسسة بتطبيق مبادئ الحوكمة، كلما قلت احتمالات حدوث مثل هذه المواقف الحرجة. الخبراء في تطوير القيادات الشخصية يقترحون على الموظفين اتباع نهج منظم عند مواجهة هذه المعضلة، ويمكن تلخيصه في ثلاث خطوات رئيسية: الاستجابة اللبقة للمسؤول الأعلى؛ حيث يجب على الموظف إظهار الاحترام وتوثيق التوجيه الذي تلقاه دون الدخول في جدال أو إظهار تردد علني. الهدف هنا هو الحفاظ على صورة مهنية راقية، وعدم إظهار أي موقف قد يُفهم على أنه تحدٍ أو تجاهل. إبلاغ المدير المباشر فورًا بمجرد انتهاء اللقاء أو استلام التوجيه، على الموظف أن يبادر بإبلاغ مديره المباشر بطريقة تحترم مكانته، مع نقل التعليمات بدقة. هذه الخطوة تتيح للمدير فرصة إعادة ترتيب الأولويات، والتواصل مع المسؤول الأعلى إذا لزم الأمر، بما يحفظ هيبته أمام فريقه. ترك القرار للمدير المباشر بعد الإبلاغ، يُفضل أن يترك الموظف القرار النهائي لمديره المباشر، بحيث يتولى التنسيق مع الإدارة العليا. بهذه الطريقة، يتجنب الموظف أن يكون في مرمى المساءلة، ويُظهر التزامه بالتسلسل الإداري. التعامل الذكي مع تضارب التعليمات لا يعني الانحياز لطرف على حساب الآخر، بل يتطلب أسلوبًا يحافظ على احترام الهياكل التنظيمية ويعكس وعي الموظف بأهمية الحوكمة. الموظف الناضج هو من يستطيع أن يوازن بين سرعة الاستجابة ووضوح المساءلة، وبين تنفيذ التعليمات وحماية مكانة مديره المباشر. إن هذه القدرة لا تُكسب الموظف ثقة الإدارة العليا فحسب، بل تبني أيضًا علاقات عمل قوية داخل فريقه، وتُظهره كعنصر قادر على التعامل مع المواقف الحرجة بوعي واحترافية. الخلاصة: الأزمات المهنية مثل تضارب التعليمات قد تُنظر إليها كأزمات، لكنها في الوقت ذاته تمثل فرصة لإظهار النضج والاحترافية. الموظف الذي يعرف كيف يتعامل مع هذه المواقف بذكاء، سيكون أكثر قدرة على بناء صورة مهنية قوية، وجذب ثقة المديرين، وترسيخ مكانته داخل المؤسسة.