يُعدّ الاعتماد الأكاديمي اليوم أداة استراتيجية لتحسين جودة التعليم الجامعي ومواءمته مع متطلبات التنمية وسوق العمل، وقد اضطلع المركز الوطني للتقويم والاعتماد الأكاديمي بدور ملموس في قيادة جهود التطوير، وأسهم في ترسيخ ثقافة الجودة كممارسة مؤسسية، ورغم ما أظهرته تجربة بعض الجامعات مع فرق الزيارة من جوانب إيجابية تُشكر، إلا أن بعضها قد كشف أيضًا عن ممارسات تستدعي مراجعة بنّاءة تعزّز الفاعلية وتضمن تحقيق الأهداف المنشودة. وفي تجربتي مع أحد فرق الاعتماد الأكاديمي، برزت ممارسات تستحق التأمل لما تحمله من مؤشرات تدعو إلى قراءة نقدية هادفة تسهم في تعزيز مصداقية عملية التقويم وتحسين أدائها، لكن الصورة لا تكتمل إلا باستحضار الطريقة التي جرى بها الاستعداد للزيارة؛ إذ سبقت لقاء الفريق توجيهات بعضها كانت رسمية وبعضها غير رسمية، لكنها بلغت أحيانًا حدّ التهويل والتخويف، حتى وُصفت من قِبل البعض ب"التوجيهات المرعبة"، وقد شملت هذه التعليمات تفاصيل دقيقة حول كيفية الحديث مع الفريق، وتجنّب الخوض في أي موضوع خارج نطاق التقييم، وآداب الحوار، وضرورة "احترام وقت الفريق الثمين"، وكأننا نستعد لاستقبال وفد دبلوماسي رفيع من هيئة دولية. ورغم ما حفّت به تلك التوجيهات من تهويل، فقد غمرني وزملائي شعور بالبهجة، إذ ظننا أننا على موعد مع تجربة تطبيقية حية لقيم الجودة، والمهنية، واحترام الرأي، كما ينبغي أن تكون في مثل هذه السياقات، لكن سرعان ما تلاشى هذا الانطباع، حين تبيّن لنا التباين الكبير بين الاستعداد المتوتر والواقع العملي للزيارة. وقد بلغت المفارقة ذروتها –بالنسبة لي– حين طلبت مداخلة قصيرة لتوضيح نقطة جوهرية في البرنامج، فُقوبلت بالرفض من قِبل رئيس الفريق بحجة ضيق الوقت، رغم أن مداخلتي لم تكن لتتجاوز دقيقة واحدة، ولكنها قد تسهم في تحسين فهم الفريق لأحد المحاور المهمة في الدراسة الذاتية للبرنامج، عندها أدركت أننا لا نخوض حوارًا علميًّا ناضجًا، بل نؤدي اختبار استظهار لا يليق بمستوى العمل الأكاديمي الذي يُفترض أن تقوم عليه مثل هذه اللقاءات. وقد ترسخ هذا الانطباع لديّ لاحقًا، حين لاحظت تعمّد الفريق توجيه بعض الأسئلة إلى أعضاء من هيئة التدريس يُرجّح أنهم ليسوا الأقدر على تقديم إجابات دقيقة، في حين جرى تجاهل من يُعتقد أنهم يمتلكون معرفة أعمق وخبرة أوسع، رغم وجود من يطلب المشاركة لتقديم الإيضاح. وفي موقف كاشف، طرح أحد أعضاء الفريق سؤالًا عن "صندوق الشكاوى والاقتراحات"، وهو سؤال يستند إلى مؤشرات تقويم تقليدية لم تعد تنسجم مع واقع التحول الرقمي الذي نعيشه اليوم، فقد تجاوزت منظومة العمل في جامعتنا هذه الأساليب الورقية منذ زمن بعيد، بعدما أصبحت قنوات التواصل المؤسسي رقمية بالكامل؛ حيث يستطيع الطالب أو الموظف أو عضو هيئة التدريس –عبر حسابه الإلكتروني الرسمي– تقديم شكوى أو مقترح أو طلب من خلال تطبيق ذكي على هاتفه، ومتابعة الإجراء إلكترونيًا، والتواصل المباشر مع أي مسؤول بالجامعة دون وسطاء أو حواجز، وهذه الممارسة نعيشها يوميًا في جامعتنا، ليس باعتبارها تقنيةً مضافة، بل كجزء من تحول مؤسسي واعٍ، يجسّد استيعابًا عميقًا لمتطلبات المرحلة، وامتثالًا حقيقيًا لمسار التحول الوطني الذي تتبناه رؤية المملكة 2030، بعيدًا عن الطقوس الشكلية والشعارات المستهلكة، وهناك مواقف أخرى، غير أن المساحة هذه قد لا تتّسع لسردها كاملة. أما الزيارة الميدانية، فقد كشفت عن تحديات مهنية لا يمكن تجاهلها، أبرزها طغيان الطابع الشكلي والاحتفالي على جوهر التقييم العلمي، حتى بدت أقرب إلى مناسبة بروتوكولية منها إلى عملية تقويم أكاديمي جاد يفترض أن تُبنى على ملاحظات موضوعية لا مجاملات عابرة، والمفارقة اللافتة أن رئيس الفريق الذي رفض بالأمس منحي دقيقة واحدة من الوقت، هو ذاته الذي لم يجد حرجًا في تخصيص وقت وافر لمراسم الضيافة والبروتوكولات الشكلية، ووجبة غداء مترفة في منتصف يوم العمل، وانتهاءً بوداع حافل وصل إلى باب السيارة. ورغم أن هذه الممارسات قد تُفهم في سياق "حسن الضيافة"، إلا أن آثارها العملية غالبًا ما تُربك جدول الزيارة، وتُرهق الكوادر الأكاديمية والإدارية، وقد تُحدث تعطيلًا مؤقتًا في سير العمل، مما يُشتت التركيز عن الهدف الأساسي للّقاء، المتمثل في فحص الواقع الأكاديمي والتحقق من مدى استيفاء المعايير المطلوبة. إن المفارقة هنا لا تتعلق بفارق الدقائق، بل بفارق الأولويات. إذ بدا واضحًا أن الوقت الذي يُحاسب فيه على الكلمة العلمية الدقيقة، يُستهلك بسخاء في أمور لا تُضيف إلى التقييم شيئًا، بل قد تُربك جدول الزيارة، وتُجهد الفريق المضيف، وتُشتّت التركيز عن جوهر المهمة الأكاديمية. وهكذا، تهاوت صورة التقييم بوصفه حوارًا علميًا ناضجًا، لتبدو –للأسف– أقرب إلى ممارسة شكلية مُحاطة بأجواء احتفالية، يغيب عنها الحس المهني، ويضعف فيها الانصات الحقيقي لما يمكن أن يُسهم في تقويم موضوعي متوازن. ومع قناعتي التّامة أن ما صدر من بعض السلوكيات لا تتجاوز كونها تصرفات فردية، لا تُمثّل المركز، ولا بقية أعضاء فرق التقييم الأخرى بأي حال من الأحوال، إلا أن ذلك لا يُعفيه من مسؤولية ضبط أداء فرق التقييم بما ينسجم مع رسالته المهنية؛ فهي واجهته أمام الجامعات، ومن خلالها يتشكّل الانطباع العام عن مصداقيته وجودة ممارساته. وفي الختام، فإن ما طُرح هنا لا يُمثّل اعتراضًا على نتيجة التقويم، ولا يُعبّر عن تذمر أو شكوى شخصية، بل هو دعوة صادقة لمراجعة نقدية بنّاءة، هدفها تعزيز فاعلية الاعتماد الأكاديمي وتحقيق أثره الحقيقي في جودة التعليم، بما يواكب طموحات الوطن ويُحدث فرقًا ملموسًا في تجربة الطالب والأستاذ الجامعي على حد سواء. ولعل هذا المقال يكون مدخلًا لحوار علمي هادف مع المعنيين بالأمر، فلربما لديهم ما يُوضح الصورة أو يُصحّح الانطباع، كما أن ما ورد من مشاهدات هو قابل للتحقق بالرجوع إلى تسجيلات اللقاءات، ويظل مطروحًا للنقاش بروح المسؤولية والحرص على التطوير. * أستاذ علم النفس بالجامعة الإسلامية