في مقال سابق منشور بعنوان «النفط من أجسادنا» كتبتُ عن القيمة الاقتصادية للبيانات الحيوية، بما في ذلك السجلات الصحية والبيانات الجينومية، وكيف تتسابق الدول والشركات لامتلاكها باعتبارها وقود الاقتصاد القادم، وكما كان النفط مصدراً للتنافس والصراع، فإن الاقتصاد الحيوي اليوم يواجه مخاطر مشابهة، وكما احتاجت حقول النفط وأنابيبها إلى الحماية، فإن البنية التحتية الرقمية للتقنية الحيوية تحتاج إلى الأمن السيبراني الحيوي درعاً لها. لقد أثبتت حوادث سيبرانية حديثة في بعض المطارات الدولية أن أعقد البنى التحتية يمكن أن تتوقف فجأة إذا ضُربت شبكاتها الرقمية، تعطّلت الشاشات وأنظمة التسجيل، واضطر الموظفون إلى العودة للسجلات الورقية، وعمت الفوضى. فإذا كان ذلك ممكناً في المطارات، فكيف سيكون الحال لو استُهدفت قواعد بيانات جينية، أو مختبرات مؤتمتة لإنتاج اللقاحات، أو مصانع تنتج بروتينات غذائية؟ حينها لن تكون النتيجة مجرد رحلات مؤجلة، بل أدوية مهددة، وبيانات جينية مسروقة، وأمن صحي في خطر. الأمن السيبراني الحيوي هو المجال الذي يواجه هذه التحديات الجديدة، فكلما ازداد اعتماد التقنية الحيوية على الحوسبة السحابية والروبوتات والذكاء الاصطناعي، ازدادت قابليتها للثغرات ذاتها التي تهدد البنى التحتية الأخرى. يمكن للقراصنة التلاعب بالبرمجيات التي تصمم الجينات، أو سرقة قواعد بيانات حساسة، أو إدخال برمجيات خبيثة في العمليات المخبرية. وهذه ليست فرضيات نظرية؛ فقد أثبت باحثون إمكانية تخزين شيفرات ضارة داخل الحمض النووي الصناعي، كما تعرّضت شركات دوائية عالمية بالفعل لهجمات سيبرانية خلال السنوات الماضية، إن التقاء البيولوجيا بالرقمنة يفتح آفاقاً واسعة، لكنه يجلب معه أيضاً مستوى غير مسبوق من الهشاشة. أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن الرهانات أكبر، فمع استثمارات رؤية 2030 وإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتقنيات الحيوية، الهادفة إلى وضع المملكة في موقع ريادي عالمي في مجالات مثل: الطب الجينومي، ومنصات اللقاحات، والتقنيات الحيوية للأمن الغذائي؛ فإن هذه الاستثمارات تفتح أبواباً واسعة للتنمية، لكنها تولّد في المقابل كنزاً من البيانات الحيوية والبنى الرقمية التي يجب حمايتها. لا بد من النظر إلى الأمن السيبراني الحيوي باعتباره امتدادًا لقضايا الأمن القومي، فكما عملت المملكة على بناء منظومات متينة لحماية بنيتها النفطية والمالية، تبرز اليوم الحاجة إلى توسيع نطاق الحماية ليشمل البيانات الجينومية، المختبرات، وخطوط الإنتاج الحيوي. ويتطلّب ذلك التفكير في دمج تقييمات المخاطر السيبرانية والحيوية ضمن أدوات الرقابة، وتعزيز معايير التعامل مع طلبات التصنيع الحيوي الحساس، وتشجيع تبني تقنيات تشفير البيانات الحيوية، إلى جانب الاستثمار في بناء كوادر تجمع بين الخبرة في التقنية الحيوية والأمن السيبراني. إن ما حدث في المطارات كان درساً واضحاً أثبت أن الأنظمة المترابطة يمكن أن تنهار سريعاً إذا ضُربت شبكاتها الرقمية، أما في عالم التقنية والبيانات الحيوية، فإن التداعيات قد تكون أعمق بكثير، لكن المملكة، برؤيتها الطموحة واستثماراتها المتقدمة، قادرة على أن تجعل من الأمن السيبراني الحيوي سلاحاً استراتيجياً يحمي مستقبلها الصحي والغذائي والاقتصادي، فالمعركة قد تكون غير مرئية، لكن النتائج ستحدد مكانة الدول في القرن الحادي والعشرين. * كبيرة خبراء متقدمة في التقنيات الحيوية