عندما أبحث عن كتاب، لا تأتي كتب تطوير الذات على قائمة أولوياتي في القراءة، وذلك لقناعتي الشخصية بأن الأغلبية الساحقة منها هي كتب تجارية هشة تتوسل المعاناة البشرية لحصد الأرباح، لكن بين حين وآخر أجد عنوانا يجذبني فأقتنيه، وبالفعل في القليل النادر من تلك الكتب تكتشف صنعة وعمقاً فلسفياً يعرض الحياة من زاوية مختلفة لم أنظر لها من قبل، كما هو الحال مع الكتابين اللذين سأتحدث عنهما لاحقاً في هذا المقال. قبل فترة قصيرة وجدتُ كتاباً حديثاً أثار ضجة كبيرة بعنوان The Let Them Theory "نظرية دعهم وشأنهم" للكاتبة ميل روبينسون، وفوجئتُ بالكم الهائل من المراجعات والترشيحات حول هذا الكتاب، بل وتبيّن أنه يتصدّر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً عالمياً. ورغم شعبيته، جاء محتواه أقرب إلى سرد داخلي وحديث نفس، دون الكثير من البحث والتقصي أو التحليل العميق، إذ تقول المؤلفة أن الفكرة جاءتها بعد أن سجلت فيديو قصيرا في إحدى منصات التواصل عن مفهوم ترك الأمور تجري كيفما اتفق دون التفات لرأي الناس أو الهوس بمحاولة إصلاح كل شيء، ثم فوجئت بالانتشار الهائل لذلك المقطع، مما جعلها تعيد تدويرها في صيغة كتاب دون الكثير من التوثيق أو الجهد البحثي. خلال قراءتي لهذا العمل، عدت بالذاكرة إلى الكتاب الرائع "دع القلق وابدأ الحياة" لديل كارنيجي، الذي صدر عام 1948 بعد ست سنوات من العمل والتقصي. كارنيجي كان يجمع القصص والحكايات من أشخاص عايشهم، يدوّن بخط اليد، ويراسل ويستقصي، ليبني مشروع حياة يقوم على الحرفة والجدية والمعايشة المباشرة للخبرة الإنسانية، يقول كارنيجي: "لإعداد هذا الكتاب، قرأت ما قاله الفلاسفة على مر العصور عن القلق. كما قرأت مئات السير الذاتية، من كونفوشيوس حتى تشرشل. وأجريت مقابلات مع عشرات الشخصيات البارزة في مجالات مختلفة من الحياة مثل جاك ديمبسي، والجنرال عمر برادلي، والجنرال مارك كلارك، وهنري فورد، وإلينور روزفلت، ودوروثي ديكس. لكن ذلك لم يكن سوى البداية"، وهذا ما يكشف الجدية الكبيرة التي كان يتمتع بها من احترفوا كتب تطوير الذات في ذلك الوقت. وفي منتصف الطريق بين التجربتين، يأتي كتاب The Secret of Letting Go "سر تحرير الذات" للكاتب الأمريكي غاي فينلي، الذي نشر لأول مرة في التسعينيات. هذا الكتاب ينتمي أيضًا إلى فئة تطوير الذات، لكنه يختلف في بنيته ومضمونه؛ فهو ليس مجرد خواطر آنية ولا مذكرات شخصية، بل محاولة جادة لبناء فلسفة حياتية متكاملة حول فكرة "التحرر الداخلي". وظّف المؤلف مزيجا من التجارب الشخصية والاقتباسات الروحية، مع محاولة لربطها بسياق أوسع من الحكمة الإنسانية. المقارنة بين هذه الكتب الثلاثة تكشف أن كتب تطوير الذات الكلاسيكية هي نتاج جهد وبحث عميقين، في حين تفتقر الإصدارات الحديثة للجديّة والعمق، إذ يُعاد تدوير أفكار طارئة على عجل وتحقق مع ذلك رواجا واسعا. وسر نجاحها السريع لا يكمن في تميّزها، بل يعود إلى السطحية التي فرضتها علينا وسائل التواصل الحديثة؛ إذ بات كل شيء سريع وتافه ينجح ويستأثر بالانتباه.