يعتقد السفسطائيون أن القانون ليس من طبيعة الأشياء، بل هو عُرْف محض، ولهذا قالوا: "إن الأشخاص الأذكياء لدرجة تكفي للتملص من القوانين ليس لديهم أي التزام أخلاقي للتقيّد به، ووصف أفلاطون سقراط بأنه عارض السفسطائيين لأن أفكارهم كانت غامضة ومتناقضة، وخاصة أن تعاليمهم يمكن أن تدمِّر النظام الاجتماعي".. إن ما كان من تناولنا للنقد وتطوره يحتم على الناقد الإلمام بجميع فروع المعرفة وخاصة الفلسفة كما أسلفنا في مقالات سابقة، فإن متابعة الحقول الفلسفية منذ نشأتها حتى الآن أمر مرهق، ولكننا لا نأخذ من هذه الاتجاهات إلا ما كان له انعكاسات على النقد والنظريات النقدية، وما انعكس منها على البنى الاجتماعية عبر العصور. وإذا بدأنا بالنقد والفلسفة الإغريقية فهذا لا يعني أنه ليست هناك اتجاهات ومحاور فلسفية قبل ذلك، ولكننا نركز على آليات الخطاب ومدى استقباله والأنس المعرفي تجاه هذه الرسائل. "لا نعتقد أننا نجافي الحقائق الموضوعية في السياق التاريخي القديم، إذ أكدنا منذ البدء على أن الإغريق ليسوا وحدهم من أوائل محرري الفكر والتساؤل عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل، رغم دورهم البارز في هذا الجانب، ذلك لأن الحضارات السابقة على الإغريق لم يكن التفكير عندها مجرد تفكير من النوع العملي المباشر" فقط، حيث إن هذا الجانب العملي في الفلسفة الشرقية القديمة لم يكن سوى نتاجاً لأسلوب الحياة القائم على المركزية بما يتوافق مع نظام الرق أو الأسلوب الآسيوي الذي ساد في بلادنا إبان تلك المرحلة في الألفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد. فإذا رجعنا إلى الفلسفات والحضارات القديمة نجد أن تعاليم حمورابي، واختراع النظام الستيني وتفسيرهم لأصل العالم وتفسير الليل والنهار أبرز منجزات البابليين، وتفوق المصريين القدماء في تحديد طول السنة ب365 يوماً وحساب حجم الهرم والنظام الديني القائم على فكرة التوحيد، وظهرت الفلسفة البراهماتية في الهند، وظلت مسيطرة على الفكر الهندي حتى القرن السادس قبل الميلاد وظهور البوذية والتي أسسها غوماتا بوذا، ثم ظهور الفلسفة الكونفوشيوسية في الصين والتي أسسها كونفوشيوس (55-479 ق.م). هذه هي بعض ملامح الفكر الفلسفي في الشرق القديم الذي تأثرت به الفلسفة الإغريقية وتفاعلت مع المعطيات الفلسفية المصرية والبابلية بشكل خاص، فقد برزت الفلسفة اليونانية في القرنين السادس والخامس (ق. م). وتعود أفضلية الفلسفة الإغريقية إلى أنها كانت الرائدة في تحرير الفكر عبر تساؤلاتها عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل والعديد من القضايا ذات الطابع المعرفي الشمولي. وقد برزت" السفسطائية" كظاهرة فلسفية لعصر ديموقراطية العبيد في أثينا، حيث كان الإنسان عند السفسطائيين "معيار الأشياء جميعاً". وهو ما أثر على المسرح والشعر سواء من منظور الفرد والبنية الاجتماعية خاصة أو على الدراما والشعر بوجه عام، ومن هنا نستطيع القول إن بداية التعامل مع الخطاب النقدي وفنونه كانت لدى السفسطائين لآرائهم وآثارهم التي لها الأثر الواضح في ذلك. فقد عني السفسطائيون بفن الكلام في بداية مشوارهم الفلسفي، وذلك في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، وبعد انتهاء معركة سلاميس البحرية (480 ق. م) ساد النظام الديموقراطي بفضل السياسي بريكليس الذي اشتهر بقدرته وبراعته في فن الخطابة حتى أنه لقب بالأولمبي، ولذا احتل فن الخطابة موقع الصدارة بين كل الفنون، إذ أصبح من أهم وسائل التأثير على جماهير الناس واكتساب أغلبية الأصوات في المجالس الشعبية. ونشأت طائفة السفسطائيين لتقوم بتلبية حاجة الناس إلى المعرفة بهذه الوسائل التي لا غنى عنها للنجاح في الحياة العامة، وكان أكثّر السفسطائيين من المتخصصين في علوم اللغة والخطابة والجدل. ولم يكن اسم السفسطائيين في بداية الأمر يفيد أي معنى سيئ، وإنما كان يعني المعلم والحكيم، ولذلك فقد عُدّت فلسفتهم ثمرة للحياة الديموقراطية في أثينا وتعبيراً قوياً عنها. ولم يهتم السفسطائيون بالأفكار الفلسفية المتعلقة بمسألة الكون والطبيعة، بل على خلاف ذلك، كانوا ينتقدون المبادئ الأخلاقية المتوارثة والأديان، ويعتقدون أن الفضيلة تكمن في تحقيق نجاحٍ ما في هذا العالم. ويعتقد السفسطائيون أن القانون ليس من طبيعة الأشياء، بل هو عُرْف محض، ولهذا قالوا: "إن الأشخاص الأذكياء لدرجة تكفي للتملص من القوانين ليس لديهم أي التزام أخلاقي للتقيّد به، ووصف أفلاطون سقراط بأنه عارض السفسطائيين لأن أفكارهم كانت غامضة ومتناقضة، وخاصة أن تعاليمهم يمكن أن تدمِّر النظام الاجتماعي"، فالذكاء على حد مفهوم بعض السفسطائيين يجعل الفرد خارجاً عن التقيد والالتزام الأخلاقي مما يهدد النظام الاجتماعي والأخلاقي بصفة عامة. وقد اعتقد بروتاغوراس (408 ق. م - 480 ق. م) بأنه يجب اتباع الأعراف والطقوس القديمة للمحافظة على تماسك المجتمع، وهو ما يتعارض مع ما اشتهر به جورجياس (380 – 487 ق. م) بأفكاره الشكوكية المحرّضة فكريًا. ويتعارض مع ما طالب به أنتيفون، الذي ركّز على الفرق بين القانون المدني والسعي الفطري للإنسان للحصول على ملذّات الحياة، وكان يعتقد أن الناس غالبًا ما يستطيعون تحقيق منافع شخصية عن طريق التلاعب بالقانون والعمل وفقًا لنزواتهم الفطرية إذا ما استطاعوا الإفلات من العواقب. وقد أخذوا على عاتقهم تعليم أبناء الحكام والأباطرة فن الخطابة والجدل والتهكم والتوليد والنقد التذوقي، كما كانوا يجنحون إلى النقد العقلي والاعتماد على العقل، ومهارة وبراعة اللعب على الفكرة ونقيضها في أسلوب مقنع، يصعب على الغير التمييز بينهما، وفي أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس قبل الميلاد نجد إقامتهم لما يسمى بالنقد العقلي، كما يقول عنه عبدالرحمن بدوي: "قد أقام قواعده السفسطائيون، ويقوم على النقد اللغوي والتاريخي والعقلي من حيث الإمكان والاحتمال". وهذه هي مرحلة النضج النقدي في المنهج السفسطائي، كما أنهم هم مؤسسوا النقد التذوقي، والذي يقوم على مدى فهم وإدراك المتلقي لما يراه وفقاً لوعيه ودرايته السابقة عبر تدريب حواسه، وعلى المتلقي بالممارسة الدائمة لدور الناقد كما كان الجمهور اليوناني يقوم بالحكم على المسرحيات في الأعياد الرئيسة، وبين مباريات الشعراء والجوالين، وكان للنقد التهكمي دوره بينهم، وهو نقد ساخر يتهكم على المؤلفين والشعراء والمسرحيين، ويتضح ذلك في الكوميديا القديمة خاصة في كوميديات "اريستوفانيس" و"بلاوتوس"، وكانت مسرحية "السحب" ومسرحية "الضفادع" للكاتب آريستوفانيس خير مثال على ذلك النقد اللاذع والساخر.