أتذكر أنني من فترة قصيرة كتبت في هذه الصحيفة مقالاً بعنوان (في زمن الكتابة) وقد تناولت الموضوع من زاوية ثقافية بحتة، محاولاً إيصال رسالة عن الطريقة والكيفية التي يتداعى فيها الكاتب لحظة إبداعه ليعتمد التعبير الدقيق أثناء الكتابة، ومن ثم يغتنم فيض اللحظة وتفتقات الذهن وقوة الشعور تجاه أي موضوع مختار، وموضوع هذا اليوم في خط متوازٍ مع موضوع زمن الكتابة الذي نحتاج فيه لتقنية مفارقة للصورة المشهدية المباشرة إلى حالة من الخيال الواسع، الأمر الذي يمنحنا علاقة واسعة وقدرة على كشف البنية العميقة للأشياء والموجودات، وبفعل القراءة موضوع هذا اليوم يظهر مستوى المثقف ويتمثّل حضوره الثقافي والمعرفي، لأن حقيقة الثقافة ليست على مستوى ما هو متاح فقط، بل إن الثقافة هي أعمق من ذلك بكثير من خلال الرؤى والأفكار، وحالة التقرّي والقدرة على الإبصار والترقي فيه نحو الواقع الممتد بين مراحله المختلفة بين ماضي عتيق وبعيد وحاضر مدرك ومعاش ومستقبل متوقع ومأمول يُرسم برؤية مختلفة تضع أوتاد أفكار التقرّي وتطلق عنان خياله في مسار لا تحد له قيود، لنصل إلى آليات الثقافة المختلفة بفعل قراءتنا العميقة لكل الموجودات، ومن هنا حتماً يحدث التغيير ونلاحظ فارق المعرفة، فالتغيير بحد ذاته سمة حضارية ويتجاوز بعده اللفظي إلى دلالات أعمق على مبدأ: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد الآية 11، وفي هذه العجالة يطيب لي أن أقف وقفة تقدير وإجلال مع بالغ الشكر وعظيم الامتنان لوزارة الثقافة التي استطاعت أن تقدم أفكاراً نوعية مختلفة كان آخرها المشروع الثقافي الكبير الذي أتاح الفرصة لكل الراغبين والموهوبون في تحدي الابتكار الثقافي لتصميم السياسات الثقافية من خلال وعي عميق يعكس حراكاً ثقافياً منقطع النظير لمسارات مختلفة أظهرت حالة الإبداع النوعي الذي انتهجته الوزارة. ومن هنا جاء فعل القراءة ليكشف سياق ثقافي عميق وبطرق عرفانية مستنيرة تعكس قدرة المثقف حين يتناول المواضيع لتكون فعلاً ثقافياً يستحق أن يعاد إنتاجه ويكون جديراً بالقراءة بأوجه مختلفة، فالقراءة الأولى تجعلنا ننفسح على قراءات متعددة، وخصوصاً إذا كان فعل القراءة بكل أبعاد الزمن، وخصوصاً عندما يتصل بكامل البيئة الحاضنة لزمن القراءة، وإذا ما أضيف ما استحدث من جوانب رقمية فنية فإنها تعزز مشاهد الفعل القرائي للجوانب الثقافية لتكون حاضرة في المشهد الإعلامي بالرقمنة الحديثة، وبالتالي تكون في صف مُنتجٍ جديد يمكننا من نقلها للعالم الآخر المختلف. إن المثقف الحقيقي يبدأ من فعل القراءة في كل أطروحاته ورؤاه لتنطلق تجلياته المعرفية بشمولية في اتجاهها الأفقي؛ فهو لا يقدم تسلية، وإنما يقدم وعياً معرفياً من خلال ثقافة مجتمعية واسعة وأنماط حياة يصوغها على شكل أفكار، ويبلورها من خلال اللغة لتصل بشكل أمثل إلى المتلقي، ووفقاً لأفكار نيتشه لا ينبغي للعقل أن يكون مجرد مستودع لأفكار الآخرين، بل يجب أن يبدع، ويتجاوز الأفكار التقليدية وقبله جاء الوحي السماوي، حاثاً على إعمال العقل للوصول إلى المعرفة على قاعدة: (أفلا ينظرون). وهنا الراؤون للمشهد ينقسمون إلى فريقين: فريق يرى ويدرك ويعي حقيقة السراب، وفريق من ظمأ أفكاره وضمورها وقصور رؤيته يحسبه ماء؛ الأمر الذي ندرك معه الفارق، وندرك من هو صاحب الثقافة العالمة، والآخر صاحب الثقافة السطحية، الأقل قدرة على التفكير والتحليل النقدي. واستتباعًا لذلك، نكون قد خرجنا من نمط القراءة الأبجدية، إلى قراءة كونية تؤهلنا لفعل قرائي رائد متعمق، يمكننا من رصد أبعاد الجمال والعلاقات المختلفة على تنوعها، وخلاف ذلك يكون المثقف المزيف المنحصر في جانب محدد لا يحيد عنه، ويجافي الرواق الثقافي العام، وبالتالي يقصر الفعل القرائي له. فالفعل القرائي هو المورد الأول للمعرفة، والمثقف هو من يصوغ ذلك بوعيه وأفكاره، من خلال لغة عالمة، يوصل من خلالها الرسالة الثقافية. فالمكان -على سبيل المثال- يتجاوز بعده الحسي الملموس إلى جوانب مختلفة قد تكون جمالية، وقد تكون أثرية، أو تاريخية، أو جغرافية، أو نفسية، وغيرها، بما تحمله تلك الدلالات من معانٍ متعددة، وبالتالي تكون قراءة المشهد البصري المدرك منضوياً خلف أستاره جوانب ثقافية مختلفة، ومهمة جداً، تتجاوز بعدها الثقافي، إلى جوانب معرفية، وجمالية، وسلوكية، وأخرى اقتصادية، وتنموية، كما هي رؤية المملكة، حين فعّلت الجوانب الثقافية، بفضل الفعل القرائي لسمو سيدي الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله-،؛ فالمثقف، والشخصية المُلهمة، هي من تقيم علاقة تفاهم مع مسرح الحياة، ومع الأنماط الثقافية المختلفة، بما فيها العادات، والسلوك الإنساني، ليتبدى لنا دور فعل القراءة، حين نبادل البعد الحضاري، والتاريخي، والجغرافي، والقيم المجتمعية، وغيرها من الجوانب المختلفة، لتتجلى متكشفة في فعل القراءة.. وإلى لقاء.