كنتُ أتألم من فكرة انعدام الضمانات في هذا العالم، وكيف يمكن أن يظهر في حياتك إنسان نبيل، تحبه وتثق به وتشعر أنه فريد، فتمنحه طمأنينتك، ويملأ حضوره فجوات قلبك.. ثم يُنتزع منك فجأة، بلا ثبات ولا عهد. تستيقظ على وعيٍ فادح أن هذا الجمال الدائم لا يملك البقاء، ليس لأنه سيّئ، بل لأنه هشّ وضعيف أمام شهواته، سريع الانطفاء عند أول عتاب، نرجسيّ يظن الكون مرآة لاحتياجه. جبانٌ إذا أوقفتَه كثيرًا، يضيق بك إذا وسّعتَه، ويستهين بك إذا عظّمته.. لأنه إنسان: يضعف، يتغير، يتقهقر، أو حتى يختفي دون وداع. كل شيء في العلاقات معرّض للاهتزاز والتقلب والانطفاء، وإن لم تستوعب هذه الفلسفة الكونية ستظل عالقًا في الانتظار كل مرة. لكنني لم أعد أراها تهديدًا، بل رحمةً خفية.. فما يرحل لم يكن نهاية ولا فناء، بل لطفًا إلهيًّا متخفّيًا في هيئة خسارة. سبحانه يعلّمك أن تكتفي بنفسك، أن تبني داخلك، أن يعمّر القلب ذاته بذاته، أن يحب دون ارتهان، ويمنح دون أن ينضب، ويظل وفيًّا للحب دون أن يذوب في أحدهم حتى التلاشي. حتى ذاك الذي كنت تسمعه حدّ الوهم، قد يمرّ عليك لاحقًا في لحظة نضج عاطفي وكأنك تمرّ عابرًا لا يعنيك. صورته أمامك لا تعني أكثر من ذكرى عابرة.. شيء مرّ من عمرك "لا لك ولا عليك". وهذا ليس مستحيلًا ولا نهاية مفجعة، بل ليس خنجرًا ينهي الإنسان. فالقلب إن لم يُسكب فيه التعلق بالله امتلأ بالناس فراغًا. وحين لا يكون الله نصيبك في الحب، يأخذك كل من حضر ويتركك كل من غاب. ولذلك لا عجب أن يخفّ صوت من كنت تراه صادقًا، ولا غرابة أن تموت صورته في قلبك. العجيب حقًا أن تبكي وكأنك خُلقت لأجله! وبعيدًا عن قانون الكون (الرحيل)، يظل السؤال: لماذا غالبًا من لا نتعلق بهم هم من يتعلّقون بنا؟ الجواب: لأننا حين نحب من وعي لا من احتياج، نغدق مشاعر صافية بلا استجداء ولا نداء خفي: "رجاءً لا تتركني". وعندما نحب من اكتفاء نصبح أكثر راحة وصدقًا، لا نفرغ أرواحنا عند أقدامهم، بل نُشعرهم بحريتهم. في اللاوعي البشري، الإنسان ينجذب لمن لا يحتاجه.. لأنه لا يُرهقه ولا يخذله. فالناس بطبعها تحب أن تعيش في مأمن وحرية. وهنا ندرك أن رحيل أحدهم لا يعني نهايتك أنت. ومن رحمة الله أن يزول الأثر من قلبك حتى كأنك لم تعش شيئًا معه. ومهما طال الألم، تُمحى المواجع من جذورها: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم". هذا هو اللطف الخفي: أن تُشفى دون أن تدري متى، أن تُفرّغ من الداخل وتتعافى بلا ذكرى ولا حسرة ولا استدعاء. تمرّ التجربة فلا يبقى منها شيء يُشبهك حين كنت في قاعها. ولعل ما قاله إيريك إريكسون في نظريته عن مراحل النمو النفسي يصدق هنا: تجاوز الخسارات العاطفية ليس هزيمة، بل جزء من نضج الهوية.. فالانفصال لا يُدمّرك، بل يُعيد تشكيلك بشكل أعمق وأكثر استقلالًا. كل من ظننتهم ضرورة، ما هم في ميزان العمر إلا عبور. وإن فقدت نصفك، يبقى الله كاملًا معك. وحين تنكسر فيك المسافة بين الانتظار ومجيء ما لا يأتي، تذكّر صوت الله وهو يسألك بحنو: "أليس الله بكافٍ عبده؟" أي جواب أبلغ من أن تكون كفاية الله نهاية القلق ومبتدأ الاطمئنان، وربط القلب بعد تيه طويل؟ فالمحبة بين الناس لا بد أن توقظك نحو محبة لا تخذل. وما نقص منك بسبب الآخرين، زادك الله به: بصيرة، صلابة، وضوح نية، وجرأة على الفقد.