لا نكاد نكفّ عن الحديث عن إرادة الحياة وخوض غمارها بروح مفعمة بالأمل، في حالات من الابتهاج والرضا وعظيم الانتماء للحب. لكن كيف نصنع تلك الحالة الوجودية التي تُشعرنا بأننا نفيض بالسعادة على أنفسنا وعلى الآخرين؟ وأثناء البحث عن الإجابة، استوقفتني دلالة قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) (الملك: 15). فالحياة – في جوهرها – وُهبت لنا ميسّرة، قابلة لأن نعيشها في تجربة فريدة، متى ما امتلكنا القدرة على استقبالها بابتسامة صادقة. فالابتسامة ليست مجرد حالة وجدانية، بل هي أفق وجودي يفتح أمامنا طاقات للحياة، ويمنحنا إدراكًا بأننا نحن الذين نختار العسر أو اليسر، وأنّ غياب الابتسامة إنما هو افتعال للكدَر وقسوة لا ضرورة لها. الابتسامة في معناها العميق فعلٌ ثقافيّ بامتياز؛ إنها جزء من خطابنا اليومي مع العالم، وتجلٍ إنساني يشيع الألفة ويؤسس لجمالية السلوك. في كلّ مجتمع، للابتسامة حضورها باعتبارها رمزًا للتواصل، ومفتاحاً للاقتراب من الآخر. بل هي رأس المال الاجتماعي الذي يشدّ الأواصر ويقوي اللحمة الإنسانية، ويجعلنا نعيش ضمن شبكة من المودّة والطمأنينة. ليس غريبًا أن يتكئ الشعراء على صورة الابتسامة وهم يتحدثون عن الشوق للحياة. فقد قال أبو القاسم الشابي: وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَاةِ تَبَخَّرَ في جَوِّهَا وَانْدَثَر البيت يختصر المعنى: من لم ينفتح على الحياة ويحتضنها بروح مُشرقة، سرعان ما يتبخّر في عتمتها. وهنا تصبح الابتسامة هي تلك الشرارة التي تقي الإنسان من الذبول والانطفاء. أن نبتسم لا يعني أن نتناسى أوجاعنا أو نُغلق أعيننا عن مفاجآت الحياة القاسية، بل أن نمتلك الشجاعة لمواجهتها بوجه مُشرق. فالابتسامة في هذا السياق ليست سلوكاً فردياً وحسب، بل هي خيار جماعي يجعل المجتمع أكثر انسجامًا وتسامحًا. وهي أيضًا «صدقة» كما وصفها الحديث الشريف، تتجاوز الذات لتطال كل من يشاركنا الطريق. في عالم مثقل بالضغوط والإكراهات اليومية، تغدو الابتسامة فعل مقاومة حضاري ضد القتامة. إنها لحظة صفاء نادرة، تستحضر فينا الطفولة المدهشة ببراءتها، وتُبعدنا عن عزلة الذات وعن الانطواء الموجع. بابتسامة واحدة يمكن أن نُزيح غبار الحياة القاتل، وأن نعيد لأنفسنا طمأنينة الوجود. ختاماً: الابتسامة ليست هامشاً في يومياتنا، بل هي نصّ ثقافي قائم بذاته، يكتب ملامحنا على صفحات الحياة. هي لغة عالمية، وفلسفة في العيش، وأفق جمالي يفتح لنا مساحات من الفرح المتجدد. حين نبتسم، نتجاوز قسوة الزمن ونتحرر من عبوسه، ونمنح أنفسنا وأحبتنا عمرًا آخر، أكثر صفاءً وبهاءً. فالابتسامة، في نهاية المطاف، ليست فقط إرادة للحياة، بل هي بهاء الوجود نفسه.