يقف الابتكار السعودي اليوم أمام مفترق طرق حاسم، في زمن أصبحت فيه التقنية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، جزءًا لا يتجزأ من جميع مفاصل حياتنا. فقد تحولت هذه الأداة المساعدة إلى شريك فعلي في الإنتاج المعرفي والتجاري، تُستخدم على نطاق واسع في تطوير الأبحاث، وتصميم المنتجات، وابتكار المحتوى. هذا التحول السريع والواسع من المختبرات إلى الاستخدام اليومي أثار تساؤلات جوهرية: هل ما تنتجه عقولنا من أفكار وإبداعات يمكن أن يستخدم أو يُستثمر أو يُنسب إلى غيرنا دون علمنا؟ ومن يملك الحق في مخرجات الأفكار التي تُدمج ضمن منظومات الذكاء الاصطناعي؟ خاصة في ظل مشاركة الملايين لمعلوماتهم وابتكاراتهم عبر أدوات لا تقدم ضمانات واضحة لحماية الحقوق. إن الإمكانات الهائلة التي توفرها هذه الأدوات قد تُغري المستخدم وتدفعه إلى استخدامها دون وعي كافٍ بالمخاطر الكامنة، مثل تسريب الأفكار أو استغلالها دون إذن. فكل مرة تُدرج فيها فكرة تجارية، أو تصميم، أو مشروع بحثي في أداة مفتوحة، تصبح هذه البيانات عرضة للتحول إلى مادة تُعاد صياغتها لاحقًا في مخرجات لا تُنسب لصاحبها الأصلي، ولا يمكنه التحكم بكيفية استخدامها. وفي ظل غياب أطر تنظيمية واضحة، تتحول هذه الأدوات من وسيلة دعم للإبداع إلى ثغرة تهدد حقوق المبدعين، وتُضعف فرص تحويل أفكارهم إلى منجزات فعلية. وهنا تبرز الحاجة الملحّة لإعادة النظر في ملكية الأفكار ضمن بيئة الذكاء الاصطناعي. من الناحية القانونية، تعتمد حماية الملكية الفكرية على مبدأ السرية. ففي أنظمة براءات الاختراع، على سبيل المثال، مجرد الكشف غير المقصود عن الفكرة قبل تسجيلها قد يُفقد صاحبها الحق في الحماية. ومع غموض سياسات الخصوصية في العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي، قد يُعتبر إدخال المعلومات فيها نوعًا من الإفصاح العلني، حتى لو لم يكن ذلك مقصودًا. هذا الخطر لا يهدد النخب العلمية أو الشركات الكبرى فقط، بل يطول الجميع، من الطالب الجامعي الذي يعمل على مشروع تخرجه، إلى صاحب المشروع الناشئ الذي يبني فكرته. وفي السعودية، ومع الزخم الكبير للتحول الرقمي ضمن رؤية المملكة 2030، تتسارع وتيرة اعتماد الذكاء الاصطناعي في الجامعات، والمؤسسات، وبيئات ريادة الأعمال، لكن يظل التحدي الأكبر في مواكبة هذه السرعة بسياسات داخلية واضحة، قلة من الجامعات وضعت أطرًا تنظيمية لاستخدام هذه الأدوات، والكثير من المؤسسات تفتقر إلى توعية فعلية حول ما يجوز وما لا يجوز مشاركته عبرها، أما في قطاع الأعمال، فتعتمد الكثير من الشركات الناشئة والصغيرة على الذكاء الاصطناعي في تطوير منتجاتها دون فهم كافٍ للمخاطر المرتبطة بحماية البيانات والأفكار. وفي هذا السياق، لا تنفرد المملكة بهذه التحديات، بل تشترك فيها كثير من الدول العربية والدول الأخرى التي تمر بمرحلة مشابهة من التحول الرقمي، لكنها لا تزال تفتقر إلى البنية القانونية والثقافية الكافية لحماية الابتكار. وهو ما يجعل من التجربة السعودية فرصة ريادية لتشكيل نموذج يُحتذى به عربيًا في تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي وحماية مخرجاته الفكرية. المشكلة الأكبر أن هذا النقاش لا يزال محدودًا في الخطاب العام. فالمحتوى المحلي، كما هو الحال في المحتوى العربي عمومًا، الذي يتناول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الملكية الفكرية لا يزال في بداياته، وحملات التوعية لا تزال محدودة. وحتى السياسات الوطنية، رغم طموحها التقني، ما زالت بحاجة إلى دمج أبعاد الحماية الفكرية وبناء الثقافة التقنية للأفراد بشكل واضح ضمن منظومة التحول الرقمي. التحرك المطلوب لا يقتصر على سن القوانين. التحدي ثقافي بالدرجة الأولى. نحن بحاجة إلى بناء وعي مجتمعي سعودي -وعربي كذلك- يفهم العلاقة بين استخدام الأدوات الرقمية وحقوق الملكية، وإلى دمج مفاهيم الحماية الرقمية والذكاء الاصطناعي الآمن في مناهج التعليم، بدءًا من المراحل المبكرة وحتى التعليم الجامعي. المؤسسات التعليمية مطالبة بوضع سياسات واضحة وتدريب كوادرها على الاستخدام المسؤول، وكذلك بيئات الأعمال مطالبة بمراجعة ممارساتها التقنية، في حين يقع على عاتق صناع القرار العمل على تحديث التشريعات وتضمين حماية الابتكار ضمن أولويات الرؤية الوطنية، وتوسيع أثرها الإقليمي. يعتمد مستقبل الابتكار السعودي -والعربي- على مدى وعينا ومسؤوليتنا في التعامل مع التقنية. فالذكاء الاصطناعي قد يكون رافعة للإبداع، لكنه في ظل غياب الحماية والتوعية يتحول إلى ثغرة لانتهاك حقوق المبدعين. وكل تأخير في إدراك هذه الحقيقة هو تفريط بفرصة ثمينة لحماية أفكارنا. نحن لا نملك ترف الانتظار؛ فالابتكار غير المحمي يواجه تحديات قد تعيق تحوله إلى منتج أو منجز وطني وإقليمي. ومن هنا، تصبح الحاجة ملحّة لصياغة ميثاق سعودي يُلهم صياغة ميثاق عربي وعالمي أوسع لحماية الابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي. ميثاق يُبنى على شراكة بين الجهات التشريعية، والمؤسسات التعليمية، والقطاع الخاص، والمجتمع الرقمي. ميثاق يُحدد بوضوح ضوابط استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ويضع حقوق الملكية الفكرية في صلب أي تحول تقني، ويرسّخ مبادئ الشفافية، والخصوصية، والمساءلة، وبناء ثقافة تقنية ناضجة لدى الأفراد. إن حماية أفكارنا ليست خيارًا تنظيميًا، بل ضرورة حضارية تضمن أن يظل الابتكار الوطني ركيزة للتقدم، ونقطة انطلاق نحو منظومة أكثر وعيًا، وسيادة رقمية تُوظف أدوات العصر لصقل الإبداع وحمايته.