هل ثمة صراع طبقي تترؤسه قوى رأسمالية مدعومة من مؤسسات مالية مصرفية مرتبطة ارتباطاً كلياً بأجندات سياسية تعيّن الرأي العام لسوق العملة وتدير الشأن الاقتصادي لتتحكم بالشريحة البروليتارية فترسم لها مصيرها؟ هل أن فكرة تشريع قوانين تكفل حق اليد العاملة لترفع من دخلها حاضرة بالفعل أم أن العالم المعلوماتي هيأ لنا نظاماً علميا يتوفر على آلية برمجية بدد الكثير من المصاعب والأغلال ليهمش هوية الكائن البشري ويهيمن على كينونته ليحط من قيمته الإنسانية محولاً إياه إلى حيزٍ يشغل الفراغ ليس إلا؟ هل ما زال الجدل قائماً حيال السؤال المعني بالإنسان واعتبارات وجوده في ظل هذا الواقع التقني؟ وهل عادت المباحث المعرفية تفضي إلى نتائج مقترحة لتعيّن مدى الصح من الخطأ أم أن انحسار الحياة بعموميتها وتقلّص قابليتها نحو الحراك الإشكالي حال دون ذلك؟ هل ما فتئت المدونة المعرفية نشطة في هذا الأوان أم أنها خفتت وضاع وهجها إزاء تصدّر العلم وتقاناته التكنولوجية؟ وهل أن الدور الذي يتخذه العلم وما توصل إليه من اختراعات ذكية وابتكارات تمكنت من تنفيذ حقائق رياضياتية على أرض الواقع جاء نتيجة فاعلية نظريات المعرفة ورواج بيانها واعتماد رؤاها كونها تنزع نحو الطرح العقلي الذي لا يفضي إلى حتميات صارمة توصد استرسال الأسئلة وترادف براهينها، وإذا كان هذا هو الصحيح لماذا تاه منا الدرس الفلسفي وانمحى متبنوه؟ هل ما زالت الأيديولوجيا ممسكة بالذهنية البشرية أم أن منظومتها الفكرية قد اضمحلت وبقيت تقتفي الأثر من السابقين؟ ماذا حلّ بالمدونات الفلسفية منذ طاليس إلى اجتراحات عصر التنوير وما بعدها أيضاً؟ هل أنها مجرد محاور حيّة في الأثر لتتداعى قيمتها فيما بعد من قبل عوالم الصراعات الاثنية المتداخلة في هذا الطقس المعلوماتي المخيف؟ لماذا أصبح الكائن البشري افتراضياً يحاول أن يضيء وجوده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ويسعى أن يجد له حضوراً فاعلاً عبر مشاهد الريلز (alrilz) على الرغم من بساطتها؟ هل صار الوجود الحقيقي للإنسان في هذا العالم وجودًا الكترونيًا يأخذ اعتباراته العامة عن طريق التعليق والاعجاب وبث المنشورات في المدونات الشخصية؟ ما المحرك الذي عن طريقه نعيد صياغة الفرد على وفق معايير إنسانية وأخلاقية في هذا الواقع العالق في مستحدثات العصر؟ ما السبيل لاسترجاع نكهة الإنسان وتقويم جوهره وترميم ماهيته؟ ماذا لو توقفت حزمة البيانات المغذية لشبكة الإنترنت؟ هل بإمكاننا أن نعثر على حقيقة الكائن البشري أم أن من الصعب الرجوع خطوتين إلى الوراء؟ أولاً علينا أن نعي مسألة غاية في الأهمية، هو أن العلم وما تنتجه لغة الماكنة قد أحكم سيطرته على ماهية الفرد وأصبح لزامًا عليه أن يؤسس حياة مغايرة على وفق مستحدثات هذا الطقس الجديد، لذا نلاحظ أن من الطبيعي أن يكون هذا التطور بجميع مساراته المقترحة يشكل وحدة عضوية كائنة لها مقدراتها المعرفية لتخلق عالماً مغايراً عن سابقه وهذا أمر لا ريب فيه، وقد نجد أن الإنسان يتعاطى مع هذه الوسائل التقنية بوصفها جزءاً حيوياً يؤدي وظيفة فاعلة من الصعب ولا أقول من المستحيل أن يخلف عنها إمعاناً لمجريات الواقع، لتمنحه هذه الوسائل تبايناً في المنهج الحياتي وينعكس هذا على السلوك وجميع السمات الإنسانية المكونة لشخصيته، غير أن هذا المنهج المبتكر أصبح يشكل نزوعاً نحو الهامش ليعدّ لنا كائنا بشرياً يعاني من أزمة وجود كونه أداة غير نشطة، نعم أنه ممسك بمقرراته اليومية في المأكل والتنزّه وتعيين الاحتياجات الحياتية لكنه لا يستطيع أن يدرك ماهيته في اختيار مصيره أو برهان حقيقته في هذا الوجود بل لا يستدل عن غرضه على سطح هذه المعمورة، وقد أجد أن سبب تغييب هذا المحرّض هو عدم أخذ الفلسفة فرصتها الكافية في استجواب الواقع بحسب المفاهيم العلمية الوافدة، فضلا عن شحة المؤسسات البحثية التي تخلص لهذا المشغل وتناقش الأثر الذي آل إلية الإنسان الحالي، فلو تتبعانا التاريخ المعرفي العربي لوجدنا أن ثمة أفرادا أخلصوا للمعرفة وأصبح لهم مشغل ثرّ يتعاطى مع حيثيات السؤال الديالكتيكي وأثره المنعكس على قيمة الكائن البشري بيد أن هذه الأفراد لا تشكل علامة فارقة في ماهية النزوع لتغيير منظومة مجتمعية كاملة لها تأصيلها البنيوي وأنساقها المتوارثة، ولو فرضنا أنها امتلكت القابلية لأن تكبح أو تناقش المضامين التي كبّلت الإنسان وقيّدت ذهنيته سواء المتوارثة أو الوافدة، هل بمقدور الكائن البشري المنغمس في هذا العالم الفوضوي أن يتفق مع هذه اللوائح الجديدة بعد أن تهيأت شخصيته واستجابت مدركاته الحسية والشعورية على وفق مقدرات هذا الحال؟ هل ثمة استعداد معرفي بل حتى نفسي باستطاعته أن يتوقف عند المحاور الجدلية التي خرجت من جلباب مفكريها؟ لعلي أجد أن البنية المشكلة لطبيعة الفرد العربي كانت ولا زالت متصلة بالأثر بعمومية محتواها كونها تتخذ من الغيبي ملاذا فاعلا في تفسير العقبات التي تتعرض لها، لتوكل اهتماما كبيرا وعناية منقطعة النظير إلى الاثني والعقدي الذي عيّن قدرته على المقارنة والكشف والتساؤل عن حقيقة وجوده في هذا العالم، وهنا تظهر لنا نتيجتان إزاء استقرائنا لهذا الحال، أن الكائن البشري العربي يحتاج إلى ماكنة بحثية ممنهجة باستطاعتها أن تتعامل مع السؤال الإشكالي الذي بقي موصداً بل مهاباً حيال تطرّف الرهبة والخشية المجتمعة في تكوينه السايكولوجي، لتبدد المحاذير التي سيطرت على واعزه الفكري والمعرفي فتسعى إلى تغيير المسار الذي جُبل عليه، ليمتلك الأهلية المعرفية والوعي الكافي للتجاوب مع كل ما هو مختلف، ما عدا ذلك يكون من الصعب انحيازه للمدونة التي تنزع نحو تثوير الذهن تحديدا بعد العمران العلمي الذي رافق العالم، بل أن قابليته تصبح سائبة في كثير من مفاصلها فلا يستطيع أن يتخطى القلق المحيط به أو يتعدى مضمونه كونه لم يخبر العقدة الأولى المتمثلة بغائية وجوده، مثل سؤال الحياة والموت أو المتعلقة بالمصير والمآل، لذا فأن الدافع الجوهري على اصطفاء مفاهيم كهذه قد اضمحل ليكون الإنسان الحالي مستقبِلا لمستجدات الواقع وحيثياته العلمية من دون تصويب مدى الخطر الذي يتقصده فهو المنغمس في هذا الزمن التكنولوجي والمنهمك في عوالم جرّفت من استعداه للتأمل أو إبداء الرأي. * الباحث في الشأن المعرفي