مثّل كتاب "الإيقاع في قصيدة النثر"، للكاتبة والباحثة التونسية الدكتورة خيرة مباركي، والصادر عن دار رومنس بالجزائر، أهمية كبيرة في كونه يتناول جانباً فنياً في صلب كتابة الشعر الحديث، كون اللغط حول شعرية قصيدة النثر من عدمها، الأمر الذي جعل هذا المبحث المهم يزيل الغبار عن هذه المسألة الإشكالية، حيث ركز على الإيقاع كوسيلةً لدراسة شعريّة قصيدة النثر، باعتبارها علامة من علامات الحداثة في الشعرية المعاصرة، ومن حيث كونها شكلاً جديدا يؤسّس قواعد مختلفة، تؤصّله ضمن حقل الشعر. وعلى هذا الأساس طُرح سؤال كبير ما الإيقاع؟ للإجابة عن سؤال ماهية قصيدة النثر. وقد تضمّن قسماً نظرياًّ بحث في مفهوم الإيقاع في اللغة وفي الاصطلاح، عبر رؤى شرّاح الفلسفة اليونانية والبلاغيين والعروضيين القدامى، الذين يربطون بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع العروضي، ثمّ التخييل. وهو ما هيّأ لتجاوز المفهوم السائد بالتأكيد على شمولية الإيقاع أمام الوزن. هذا فضلاً عمّا ظهر من أشكالٍ جديدة، مثّلت دليلا على التحرّر والانفتاح على شعريّةٍ بديلةٍ، تعطي مجالاً لغير قصيدة العمود حتى تتوسّع آفاقُها. وهو ما وقف عنده الدرس النقدي الحديث، إذ تطوّرت الرؤية للإيقاع، مع نازك الملائكة، حاولت أن تتجاوز بها القناعات الشعرية القديمة لتتعمّق هذه الرؤية مع محمد مندور في ربطه الإيقاع بالكم والنبر، وإبراهيم أنيس في اهتمامه بالنغمة الموسيقيّة مقابل عدم أهمية النبر، ثم شكري عياد وتركيزه على النبر والكم. كما أفاد الدرس النقدي الحديث من رؤى غربيّة، ومنها رؤية بنفنيست (Emile Benveniste) ومشونيك (Henri Meschonic) وجيرار ديسون (Gerard Desson) وهي رؤى يتأسس عليها مفهوم جديد للإيقاع، ارتبط بنظرية الدليل وأولويّة اللسان ليكون الإيقاع الدال الأكبر وهو ما وصل إليه ميشونيك، في درس العلاقة بين الإيقاع والمعنى. أما ما تعلّق بقصيدة النثر، فقد اهتمّ البحث بتعريفها ودرس المهاد الحاضن لظهورها في أروبا، ومنه إلى قصيدة النثر العربية، عبر جملة من الإشكاليات، كإشكاليّة المصطلح وارتباطها بالحداثة والشعريّة العربيّة، وما تتفرّد به من خصائص فنيّة، وأهمّها تجاوزها للبلاغة والعروض القديمين. وإنشاء رؤية جديدة للإيقاع، وهو مدار العمل في القسم التطبيقي من خلال "غرانيق الأمس" للشاعر العراقي فائز الحداد، واهتمّ البحث بمظاهر حضور الإيقاع في مستويات مختلفة (صوتيّة وتركيبيّة وبصريّة ودلاليّة)، لرصد جملة الظواهر الإيقاعيّة الغالبة في الدّيوان عبر منهج تحليلي يراعي تتبع الظاهرة الإيقاعية من داخل النموذج، ومنها إيقاع "التكرار الصوتي"، في مستويين وهما تكرار الحرف، واللفظ، وإيقاع التركيب (إيقاع "تركيب الجر" و"المركب الفعلي"، و"الحذف في الأعمال اللغويّة"، (جملة النداء والاستفهام). وإيقاع التشكيل البصري في إطار التحاور بين اللغة والصّمت. ثم الإيقاع الدلالي عبر الاهتمام باللغة الشعريّة، وخلقها سياقات جديدة داخل أنساقها، إضافة إلى طرائق تشكيل الصورة الفنيّة ودورها في دعم الإيقاع الدلاليّ و"إيقاع الصورة" (الرمز، التقابل...)، ليحقّق البحث جملة من النتائج ارتبطت بالإيقاع وقصيدة النثر مظهران من مظاهر الحداثة الشعريّة يؤسّسان لشعريّة متفرّدة. لأنّ الإيقاع لا ينشأ قبلا بل هو ظاهرة آنيّة تولد مع الخطاب. ويمكن أن تخلُقَ قصيدةُ النثر شعريّتَها فتُظهر قدرة الشاعرِ على صناعته باللغة وفي اللغة، إذن قضية الإيقاع في قصيدة النثر هي أساساً قضيّة مصطلحات.