تشهد الساحة التنموية في العصر الحديث تحوّلاً جذريًا في آليات العمل، حيث لم تعد الجهود المنفردة كافية لمواجهة التحديات المتنامية أو تحقيق تطلعات المجتمعات الطموحة. ويبرز في هذا السياق نموذج الشراكة بين القطاعات الثلاثة – الحكومي، والخاص، وغير الربحي – بوصفه أداة استراتيجية قادرة على إعادة تشكيل منظومة التنمية، وتوجيه الاستثمار الاجتماعي نحو أقصى درجات التأثير والاستدامة. ضمن هذا الإطار، تتجه الدول ذات الرؤى التنموية بعيدة المدى إلى تبنّي شراكات تكاملية لا تقتصر على التمويل أو الدعم اللوجستي، بل تشمل تصميم السياسات، وتبادل المعرفة، وبناء القدرات، وتحفيز الابتكار المجتمعي. وتأتي رؤية المملكة العربية السعودية 2030 في طليعة المبادرات العالمية التي تبنت هذا النهج بوضوح، إذ جعلت من تمكين الشراكات التنموية ركيزة لتحقيق اقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي ووطن طموح. وتؤكد التجارب الرائدة أن هذا النموذج ليس حبرًا على ورق، بل واقع فعلي أثمر عن تحولات ملموسة. محليًا، قدّمت المملكة نموذجًا فريدًا عبر مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي"إثراء"، الذي لم يكتفِ بتعزيز الثقافة، بل أسس منظومة متكاملة للتمكين المعرفي والمجتمعي، إذ استقطب أكثر من 6 ملايين زائر والكثير من الفعاليات ، مما جعله رائدًا في توظيف الشراكة لأغراض تنموية بعيدة الأثر. وعالميًا، في المملكة المتحدة، ساهم نظام الاستثمار الاجتماعي القائم على النتائج (Social Impact Bonds) في تقليص معدلات الجريمة بنسبة 9%، مستندًا إلى شراكة ثلاثية ناجحة جمعت الدولة والمستثمرين والمؤسسات المجتمعية، ووفّرت تمويلاً تجاوز 100 مليون جنيه إسترليني. هذه النماذج، وغيرها، تؤكد أن تفعيل الشراكة بين القطاعات الثلاثة يمثّل رافعة حقيقية لإنجاح الاستثمار الاجتماعي، وقناة مثالية لتحويل الرؤى الطموحة إلى منجزات واقعية. ولدى المملكة فرص واعدة لتوسيع هذه التجربة لتشمل مختلف المجالات، من التعليم إلى الصحة، ومن البيئة إلى الابتكار، بما يعزز التكامل، ويقلص الفجوة بين القطاعات، ويحقق أثرًا تنمويًا مستدامًا يليق بتطلعات الوطن والمواطن. تعتمد فلسفة الشراكة الثلاثية على مبدأ تكامل الأدوار: القطاع الحكومي يضع السياسات والتشريعات ويهيئ البيئة الداعمة، القطاع الخاص يوفّر التمويل والخبرات والابتكار، بينما يضطلع القطاع غير الربحي بدور المحرك المجتمعي الذي يفهم الاحتياج ويوصل الأثر إلى المستفيدين بدقة وكفاءة. إن هذه المعادلة المتوازنة تتيح تصميم مبادرات أكثر استدامة وأوسع أثرًا، وتخفف العبء على القطاع الحكومي وحده، وتسهم في تحقيق القيمة المشتركة التي تجمع بين الربح والعطاء، وبين التنمية الاقتصادية والاجتماعية. تشير تقارير وزارة الاقتصاد والتخطيط إلى أن المملكة تتجه بقوة نحو توسيع نطاق الشراكات الاستراتيجية في المشاريع التنموية، خصوصًا في برامج الإسكان، وتمكين الشباب، وتحسين جودة الحياة، والصحة والتعليم. ومن شأن تعزيز هذه الشراكات أن يقلص الفجوة بين القطاعات، ويعزز فعالية الموارد ويزيد من كفاءة الأداء. فعلى سبيل المثال، في مشروع "جود الإسكان"، تضافرت جهود وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان مع كبرى الشركات والمؤسسات غير الربحية لدعم الأسر المحتاجة، وقد أسهمت هذه الشراكة في توفير أكثر من 20 ألف وحدة سكنية خلال 4 سنوات، بتكلفة تجاوزت ملياري ريال سعودي، وبلغت نسبة مساهمة القطاع الخاص والمانحين أكثر من 60%. في ظل هذا الزخم التنموي، تُعد الاستفادة من التجارب الناجحة—مثل إثراء محليًا، وSocial Impact Bonds عالميًا—فرصة استراتيجية لبناء نموذج وطني للشراكة التنموية المستدامة، يربط بين رؤية القيادة الطموحة، وقدرات القطاع الخاص، وروح المبادرة في القطاع غير الربحي. هذا النموذج يمكن أن يشكّل إطارًا موحدًا يُطبّق على نطاق واسع، ليشمل مختلف المدن والمحافظات السعودية، وفقًا لاحتياجاتها التنموية الخاصة، سواء في المناطق الحضرية أو النائية، بما يحقق عدالة التوزيع في فرص التنمية، ويعزز فعالية المبادرات المجتمعية المحلية. الشراكة بين القطاعات ليست مجرّد آلية تنفيذية، بل منظومة تنموية متكاملة، قادرة على مضاعفة الأثر الاجتماعي، وتحقيق الكفاءة الاقتصادية، وترسيخ مبدأ التشاركية في خدمة الوطن والمجتمع. وعندما تُفعّل هذه الشراكات على مستوى شامل يمتد من العاصمة إلى المحافظات النائية، فإن المملكة لا تقترب فقط من تحقيق رؤية 2030، بل تصنع نموذجًا عالميًا يُحتذى به في تحقيق التنمية المستدامة من خلال الاستثمار الاجتماعي الواعي والمسؤول. *مستشار التواصل المؤسسي - خبير المسؤولية الاجتماعية والاستدامة. X: @Ayedhaa