من فترة غير قصيرة يستهويني هذا الموضوع للكتابة عنه، وفي حديث عجِل دار بيني وبين الأستاذ عبدالله الحسني مدير تحرير هذه الصحيفة حول هذا الموضوع مما استثارني مجددا للكتابة عنه، ليس كموضوع ثقافي معرفي فحسب، بل لأنه موضوع اجتماعي فكري يمكن أن نطرح فيه جملة من الآراء والأفكار حول من يحمل شهادة والأخر الأمي، ودائما أنا منحاز وبقوة إلى الأخر الأمي، ولديه ما يبرر ذلك الانحياز، وهو في الواقع ليس انحيازا بقدر ما هو اصطفاف منطقي عقلاني واقعي، لأن الشهادة بالضرورة لا تعني كل شي، قد نحصل على شهادة عُليا لكننا لم نتمكن من ترك الأثر الواضح عن هذه الشهادة، وبالتالي نكون كمن يحمل أسفارا مثقلة بظهره، الأمر الذي سيشكل علينا في النهاية وزر اللقب لتلك الشهادة لأننا قاصرون عن الوصول إلى معناها وأهدافها وغاياتها، وغالبا ما اردد في كل لقاء أن الشهادة ليس بالضرورة أن تصنع مثقفا ولا مبدعا؛ فالكفاءة المعرفية والحضور الثقافي والمستوى التنويري لا ينحصر على حملة الشهادات، قد يكون الشخص أكاديميا ويحمل شهادة عالية لكنه ليس شخصية تنويرية ولا بالضرورة مثقفا، فالمثقف هو «من يعرف شيء عن كل شيء» فالثقافة تنوع معرفي، والشخص المثقف هو من يساهم في بناء قيم مجتمعية تكون في مؤداها الأخير نحو القيم والمثل العليا للإنسان والوطن. المثقف هو من لديه القدرة على التحليل وطرح الرؤى والحلول والبدائل والأفكار، المثقف هو الذي يقف حول جملة من التساؤلات المختلفة لإجابات نوعية ومتعددة ومختلفة؛ وهو من يحمل سؤالا مفاهيمياً بين ثنايا كلامه، ومن وجهة نظري أن من يغِيب عن هذه المفاهيم هو من يحاول لفرصة العيش في مجتمعٍ خاص به يؤمن ببعض الألقاب، أو لربما هي محاولة جادة للانضمام عنوة مع النخب الثقافية النابهة مع كل افتقار وخيبة للمعرفة والثقافة، في المقابل عند تحديد المعايير الدقيقة التي تضع كل فئة على كفتي الميزان فإنه على مر التاريخ كان كل المؤثرين هم حُكماء (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا )، وهم لا يحملون شهادات عالية، بل أن البعض وصفوا في مجتمعاتهم بالعباقرة، والعبقري هو من تفرغ للإبداع والابتكار والإنتاج ويقدم الفرضيات المختلفة، لأنه يتمتع بقدرات فكرية استثنائية للوصول إلى أفكار جديدة، ويتمثل فيه مفهوم الاستخلاف في الأرض، وتأثير العباقرة كان له أثر ثقافي معرفي وأصبح مرجعا ضمن إطار واسع في مسرح الحياة ومرتكزا أساسيا للحصول على أوليات المعلومات المعرفية؛ لأن المعلومات غالبا ما توثق عن طريق الحضور الثقافي المعرفي والفكري من خلال الندوات واللقاءات وغيرها إلى جانب ما دُوّن ووثق في بعض المراجع والأوراق العلمية بالكتابة أو الرأي المنبري وكذا على شكل سلسلات من الدروس والطرح المستنير، ولو استدعينا بعض الشخصيات التي لها اثر واضح على الساحة الفكرية والمعرفية قد يطول بنا الشرح وجلهم لا يحملون شهادات علمية، لكنني اكتفي بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد امتدح الله فيه الأمية ذلك النبي الأمي وذلك يوحي بحقيقة الفرق، وأن الإنسان بعطائه وبحضوره وفاعليته لا بشهادته. إن المستوى الثقافي والحس المعرفي منضويان خلف حالة التقرّي في هذا الوجود وإغراق في التأمل للوصول إلى المعرفة النورانية بعيدا عن أي شهادات أكاديمية، والتي يتجلى فيها حقيقة الإنسان المستنير الواعي والمنفسح على هذا الوجود بشكل أفقي عكس المتخصص صاحب الشهادة الذي يجبره التخصص على التوسع في الاتجاه الراسي فقط، والشهادة -إن وجدت- يفترض أن تضعه في أول الطريق نحو الإنتاج الثقافي والمعرفي وتمنحه الوقوف على عتبة باب يلج من خلاله إلى نِتاج فكري واسع يستحق هذا اللقب، وعندها ندرك الفارق الحقيقي بين أمية الشهادة والشهادة الأكاديمية، ويحق له أن نضيف إليه صفة اللقب المستحق وفقا للقواعد الأخلاقية والأعراف السائدة، فلا يجرد مما يستحقه ولا يمجد بما لا يُستحق .. والى لقاء.