ما يواجهه سوق العمل في الوقت الحالي هو عدم اتزان بين الفرص التي يحصل عليها البعض وبين مهاراتهم الفعلية لمجرد أنهم حصلوا على شهادات جامعية. إعادة تشكيل مفهوم العمل والمهارات المطلوبة يقتضي البحث عن معايير أخرى.. الفلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو، كانوا يحتقرون العمل اليدوي، بينما الإسلام يرى كرامة الإنسان ونجاحه في العمل اليدوي، فاليد التي تعمل يحبها الله ورسوله. المفارقة هي أن الغرب الذي ينتمي لليونان وفلسفته هو من تبنى العمل الحرفي وهو من طور العلاقة بين العقل واليد وصنع الحضارة الصناعية على المستوى المؤسسي والفردي وحفز الأفراد على الابتكار من خلال العمل اليدوي الحرفي بينما ظلت ثقافتنا الاجتماعية الحرفية مجرد شعارات إلا ممن رحم ربي وظلت فكرة "الصانع" غير محببة في مجتمعات الجزيرة العربية ولم يحظَ الحرفي بقيمة اجتماعية في كافة أمكنة وأزمنة الحضارة الاسلامية إلا ما ندر، فلم توثق أسماؤهم ويندر أن يكتب عن صنائعهم. أثناء دراستي في بريطانيا لاحظت أن أغلب الجيران حولوا كراجات سياراتهم إلى ورش للعمل والابتكار، يد تعمل وعقل يبتكر ولم أجد هذه الظاهرة في مجتمعنا لأن الأمر بحاجة إلى تربية وتعويد منذ الصغر. مناسبة كتابة هذا المقال هو إصرار جميع الأسر السعودية على إلحاق أبنائهم بالدراسة الجامعية فليس لديهم خيار آخر فلا يتقن أبناؤهم سوى هذه الصنعة التي ليس بالضرورة أنها ستقود إلى عمل في المستقبل. في هذا الوقت من كل عام يتركز حديث الناس على موضوعين، الأول هو حرارة الجو، فتجد من يقول: الحر هذا العام صعب ولا يطاق وكأنه في العام الذي قبله كان أفضل أو أن الجو كان معتدلاً في السنوات السابقة وحدثت طفرة حرارية هذا العام. في كل مجلس وكل مكتب سوف تسمع نفس العبارات عن الطقس وصعوبته. الموضوع الآخر، أصعب من حرارة الجو بالنسبة للبعض، وأقصد هنا القبول في الجامعة، ففي كل عام يتصل بي كثير من الأصدقاء والأقارب من أجل الحاق أبنائهم في الجامعة وغالباً ما تكون نسبهم الموزونة غير مطابقة للمطلوب. أحاول أن أشرح لهم أنه لم يعد الأمر بأيدينا فهناك نظام يخضع له الجميع. الإشكالية أن البعض يعتقد أنني لا أرغب في مساعدته ومهما حاولت أن أشرح وأوضح لهم فهم لا يرون إلا أن مستقبل أبنائهم على المحك. كتبت حول القبول كثيراً وذكرتُ أنه سيصبح "فوبيا اجتماعية" في المستقبل، وها نحن نعيش هذه "الفوبيا" التي ستتضخم مع انعدام أي خيارات أخرى أمام الشباب والشابات. الأمر يحتاج إلى خطة استراتيجية تعمل على ما يمكن أن نسميه "إعادة تشكيل المجتمع" وحركية قوى العمل تمثل أحد عوامل التغيير وإعادة التشكيل لأي مجتمع. بالنسبة لي لا أجد هناك خيارات كثيرة سوى إعادة تشكيل مفهوم المهارات والمعارف المطلوبة لإشغال الوظائف. لقد بدأت المقال بفلسفة العمل اليدوي، والهدف هنا هو تحرير العقل من العمل النظري المكتبي، البعض يرى في العمل "مكتب" ومراجعين، ولا يرى "الإنتاج" كمحصلة لأي عمل. ما يواجهه سوق العمل في الوقت الحالي هو عدم اتزان بين الفرص التي يحصل عليها البعض وبين مهاراتهم الفعلية لمجرد أنهم حصلوا على شهادات جامعية. إعادة تشكيل مفهوم العمل والمهارات المطلوبة يقتضي البحث عن معايير أخرى. وهذا امر يتطلب تدخلاً من السلطة العليا، ففي وضعنا يصعب التغيير من الأسفل إلى الأعلى. خلق ثقافة العمل الحرفي، يمكن أن يكون أحد الخيارات، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل لأنه لم تكن هناك جدية للتغير حتى أنى أذكر أنه قبل عشرين عاماً نشرتْ إحدى الصحف خبراً ذكرت فيه أن مجموعة من رجال الأعمال سيتبنون فكرة التعليم الثانوي المهني وسيوفرون فرص عمل للخريجين. وأذكر أنني علقت على الخبر في هذه الصحيفة الغراء وامتدحت الفكرة لكن شككت في إمكانية تطبيقها لأن وزارة التعليم لا يوجد لديها الطاقة والصبر والنفس الطويل خارج أعمالها الإجرائية. تحدثنا كثيراً حول فلسفة التعليم إلى الدرجة التي بدأَ اليأس من إمكانية التغيير يتسلل إلى نفوسنا. ذكرنا أن فلسفة التعليم يجب أن تكون مبنية على حل المشكلات، فهذه الفلسفة ليست داعمة للابتكار العقلي فقط بل إنها تصنع منهجاً للصبر والعمل الدؤوب والبحث عن الخيارات المختلفة للحل، وهذه مهارات يحب أن تنمو مع الفرد منذ الصغر وتتطور بشكل مستمر. كما أنها فلسفة يمكن اقترانها ببرامج التعليم المهني في مراحل متقدمة (التعليم الثانوي) مما سيتيح لخريجي الثانوية فرصاً للعمل المتفرد وخلق أعمالهم الخاصة. صناعة مجتمع مبدع لا يتطلب أن يتخرج الجميع من الجامعة بل يحتاج إلى أفراد يملكون المهارة والشغف، ولا أعلم إن كان أصحاب العمل يفكرن في هذه المسائل أكثر من تفكيرهم في الأوراق التي يملكها المتقدم للوظيفة. نصيحتي للآباء والأمهات ألا يجعلوا قبول أبنائهم وبناتهم في الجامعة بعبعاً ينغص عليهم حياتهم كما أنصحهم بألا يؤجلوا هذه المشكلة إلى أن يصطدموا بها فيضطرون إلى ركوب أي فرصة أمامهم. يحب عليهم أن يعملوا في وقت مبكر لخلق الفرص المستقبلية لأبنائهم، وبدلاً من انتظار المصيبة حتى تقع وانتظارها في رعب يحب عليهم تفكيكها في وقت مبكر مثل ما تعمل كثير من الأسر في العالم فعندما تخطط الأسرة لإنجاب طفل تعمل مبكراً للتخطيط لتعليمه وبناء مهاراته ولا تنتظر أحداً ليقوم عنها بهذا الدور.