هل يختار صندوق الاستثمارات العامة تطوير السوق الرياضي عبر تركيز الملكية؟ لم تعد قرارات الاستثمار الرياضي تُبنى على الأهواء أو الشعبية في عالمٍ باتت فيه الرياضة إحدى أذرع القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية، لا تعود تحركات الكيانات الكبرى مجرد قرارات إدارية، بل إشارات استراتيجية تُعيد تشكيل التوازنات محليًا ودوليًا. ومن هذا المنطلق، تأتي خطوة صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) نحو تقليص ملكيته في الأندية السعودية إلى نادٍ واحد فقط، مع اقتراب موسم 2026–2027، كحدث مفصلي في مسار مشروع خصخصة الرياضة. وبينما يتساءل الشارع الرياضي عما إذا كانت هذه الخطوة تمثل انسحابًا من المشهد، فإن قراءة أعمق تكشف العكس: نحن أمام نقلة نوعية من التمكين إلى التمركز، ومن التشغيل إلى التحفيز. أولاً: الأبعاد القانونية – نزاهة التنافس على طاولة التنظيم الدولي: في عالم كرة القدم الحديث، لم تعد قرارات الاستثمار الرياضي تُبنى على الأهواء أو الشعبية، بل على منظومات تنظيمية دقيقة. وهنا يبرز أحد أهم المحركات خلف خطوة تقليص الملكية: قواعد الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA)، والتي تمنع تعدد ملكية الأندية (Multi-Club Ownership) في حال مشاركتها في نفس المسابقة، حمايةً لمبدأ نزاهة التنافس. هذا ما حدث سابقًا مع حالات معروفة مثل مجموعة Red Bull، التي واجهت صعوبات قانونية عند تأهل فريقيها ريد بول لايبزيغ وريد بول سالزبورغ إلى دوري أبطال أوروبا في ذات الموسم. الأمر نفسه ينطبق على الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، مما يجعل الاحتفاظ بأكثر من نادٍ في ظل الطموح القاري للأندية السعودية مسألة محفوفة بالمخاطر القانونية. ثانيًا: الأبعاد الاقتصادية – هوية تجارية واستقلال تسويقي: عندما يمتلك كيان واحد عدة أندية، فإن الفروقات بين هذه الأندية تبدأ بالتآكل، تصبح الاستراتيجية موحّدة، والأهداف مشوشة، والهويات التجارية متشابهة بشكل يُضعف القيمة السوقية لكل نادٍ على حدة. وهنا تتجلى ميزة الانفصال: التركيز على نادٍ واحد فقط يفتح المجال أمام كل نادٍ آخر لصياغة شخصيته، هويته، وشراكاته الخاصة. تحرر الأندية من الملكية المشتركة سيعزز قدرتها على جذب مستثمرين استراتيجيين محليين ودوليين، بعيدًا عن منافسة عملاق سيادي بحجم PIF. كما يدعم هذا التوجه أهداف برنامج الخصخصة ورؤية السعودية 2030، التي تسعى لتحويل الأندية إلى كيانات اقتصادية فاعلة، قادرة على العمل باستقلال وربحية. ثالثًا: منطق الاستثمار السيادي – من التأسيس إلى التحفيز: الصناديق السيادية، كحال PIF، لا تستثمر لتدير بشكل يومي، بل لتُحدث الأثر وتُطلق التحول، ثم تعود للوراء كمستثمر استراتيجي طويل الأمد. امتلاك أربعة أندية كبرى (الهلال، النصر، الاتحاد، والأهلي) في المرحلة الماضية كان ضرورة لبدء التحول الرياضي، وضمان انطلاقة تنافسية وسوقية قوية. لكن الآن، ومع استقرار البنية، أصبحت العودة إلى تمركز ملكية الصندوق في نادٍ واحد فقط جزءًا من استراتيجية نضج مؤسسي، تُعيد توزيع الأدوار وتمنح السوق فرصة للنمو الطبيعي، عبر قوى العرض والطلب، والتنافس الاستثماري المفتوح. رابعًا: الأفق الدولي وجه رياضي سعودي في أوروبا والعالم: تقليص الملكية لا يعني الانكماش، بل إعادة توجيه النادي الوحيد المتبقي تحت مظلة الصندوق قد يتحول إلى أداة لتمثيل المملكة على الصعيد القاري والدولي، يمكن لهذا النادي أن يُصبح منصة للابتكار والتحالفات الأوروبية، يُشارك في شراكات عالمية على غرار "نموذج التوأمة" مع أندية أوروبية، ويكون نقطة ربط استثماري مع كيانات دولية، تنقل الخبرة والتقنية والحوكمة الحديثة. هذا التوجه يتماشى مع استراتيجية جعل السعودية وجهة استثمار رياضي عالمية (Global Sports Investment Destination)، سواء من خلال استقطاب المواهب، أو تصدير نماذج حوكمة رياضية ناجحة. في الختام: من السيطرة إلى التمكين الانتقال من امتلاك أربعة أندية إلى نادٍ واحد لا يعني تقليص حجم الحضور، بل توسيع الأثر بذكاء مؤسسي. الصندوق لم يأتِ ليبقى مالكًا إلى الأبد، بل ليؤسس، يُمكّن، ثم يُفسح المجال. بهذه الخطوة، يعكس صندوق الاستثمارات العامة فهمًا عميقًا لديناميكيات الحوكمة الرياضية الحديثة، وتوازنًا دقيقًا بين التنظيم المحلي والانفتاح العالمي، وبين المحافظة على الجودة والاستقلال المالي. إنها لحظة استراتيجية فارقة، تمثل تطورًا طبيعيًا في رحلة التحول الرياضي — من الملكية إلى التمكين، ومن المركزية إلى السوق، ومن التشغيل إلى الاستدامة. والمملكة التي أدركت مبكرًا أن الرياضة قوة اقتصادية ومكانة دولية، تخطو اليوم نحو مرحلة أكثر نضجًا وشمولية في بناء منظومتها الرياضية المستقلة والمستدامة. * رئيس مجلس إدارة نادي الدرعية سابقًا تواجد النجوم الكبار في الأندية علامة فارقة الجماهير السعودية أحد عوامل نجاح الفرق مقر الفيفا الأندية المملوكة للصندوق الدكتور خالد بن سعد الحبشان *