مدخل: "المسرح فعل بناء الذات والوطن والمستقبل". دعونا نقرر استهلالاً: أننا حين نتحدث عن المسرح ورهانات المستقبل، فنحن لا نطلق الأحلام في الهواء، بل نتحرك من أرض صلبة، فيها من الإمكانات والموارد ما يجعلنا أمام مسؤولية لا خيار لنا فيها سوى النجاح. نحو المستقبل... لدينا في المملكة اليوم مشهد مسرحي يتشكل بإمكانات واعدة منها: وجود هيئة متخصصة في المسرح دعم مالي سخي برامج ومبادرات كبرى طاقات شبابية خلاقة بنية ثقافية مسرحية في تصاعد ومشاركة جماهيرية متزايدة في المهرجانات والمسابقات المسرحية كل هذا يُشير إلى أن المسرح لدينا ليس عابرًا أو طارئًا، بل راسخاً في التكوين الجمعي، ينتظر فقط من يحفّزه ويستخرجه من مكامنه، عبر تشكيل مشهد واع قادر على خلق الدافع والفرصة والمساحة. ومن بين المشاريع اللافتة التي تعكس هذا الوعي: إنشاء كليات تعنى بالمسرح برنامج الابتعاث الثقافي "جولة المسرح" و"برنامج ستار" برنامج هاوي والبرنامج التدريبي (ثقف) إضافة إلى جهود قديمة تتجدد هنا وهناك كعروض أمانة الرياض ومهرجان شتاء الباحة المسرحي والمبادرات الشعبية والفردية والمساهمات الشبابية التي وضعت لبنات أولى لحضور المسرح فضلاً عن جهود جمعيات الثقافة والفنون وبعض الأندية الأدبية وجهود وزارة التعليم والجامعات في تنشيط وأحياء المسرح. ومن رهاناتنا أن لدينا مسارح نوعية كمسرح المرايا الذي يمثل نموذجاً عالمياً فضلاً عن عدد كبير من المسارح التي تتبع مختلف الجهات والتي يمكن تأهيلها. كما أن أعظم رهاناتنا أجيال تنتظر فرصتها في الإبداع، ودعمًا مؤسسيًا ضخمًا، ومشاركات خارجية تثبت أننا قادرون على التنافس متى أُتيح لنا الفضاء المهني والاحترافي المناسب. لكننا كمسرحيين نتطلع دوماً لأفق أبعد .. لأن ملهمنا الشاب سيدي سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله- مؤمن بنا. رؤيتنا الطموحة تحرضنا على ذلك لنذهب نحو الأفق البعيد... ولكي نصل إلى هذا الأفق، لا بد من تسريع العجلة عبر: * سياسات واضحة وتشريعات صريحة حول: تصنيف المسرحيين وفصل المحترف عن الهواة. تنظيم مسار "فسح العروض"، والذي بات محيرًا: النص يُفسَح من وزارة، والموافقة من هيئة، والترخيص من جهة أخرى... وربما نحتاج كيانًا نقابيًا يُنظم هذه العملية. واقع الجمعيات المسرحية – ك"مسرح كيف" نموذجًا – يكشف معضلة التداخل المؤسسي: تبعية لوزارة الموارد، ومراقبة من وزارة الثقافة، ما يجعل الحركة مشتتة ومقيدة. ولذلك فإننا بحاجة إلى حوكمة واضحة للاستثمار المسرحي. المسرح لا يحتاج دعمًا فقط، بل يحتاج إلى بناء نموذج استثماري مستدام، يجعل من المسرح مشروعًا إنتاجيًا، لا مشروعًا خيريًا. الجمهور... كيف نبنيه؟ في خضم الصيف والأنشطة المتنوعة، لو طرحنا استبيانًا بسيطًا: "هل ستذهب إلى المسرح هذا الأسبوع؟" قد لا نجد نتائج مشجعة. لكن المشكلة ليست في الجمهور، بل في كيفية الوصول إليه، وكيفية إعادة بناء ثقته بالمسرح كمصدر للمتعة، والتفكير، والجمال. ولهذا نحتاج إلى خطة قصيرة الأجل، تُعيد بناء جمهور المسرح وتستثمر في تشكيل ذائقته. واقع المسارح بكل واقعية، 95 ٪ من مسارحنا غير مؤهلة لتقديم عروض ناضجة. لكننا نمتلك بدائل ذكية يمكن العمل عليها: مسرح الشارع المسرح الروماني المسارح المتنقلة وغيرها من النماذج التي أثبتت فعاليتها الإدارة الذكية ضرورة لا ترف يجب هنا القول إن علينا إعادة النظر في مفهوم الإدارة المسرحية. فنحن لا نحتاج مديرًا يدير الميزانية فقط، بل نحتاج إدارة بفكر استثماري وفني في آنٍ معًا، كما نرى في هيئة الترفيه مثلًا: تنشئ، تُنفذ، تستثمر، تقيّم. هذا النموذج الديناميكي هو ما يحتاجه المسرح في هذه الآونة. ليس من المنطقي أن نُحمّل المسرحي مهام الإدارة والمحاسبة والتفاوض والتمويل.. والتواصل والتسويق المسرحي مخلوق للإبداع، لا للموازنات! وكم نحتاج كيانًا إداريًا يرفع هذا العبء، ويُبقيه متفرغًا للدهشة والمتعة. الأكاديمية والمنهج الأكاديمية المسرحية تحتاج إلى إعادة تشكيل في المنهج، بحيث تراعي: الثقافة المسرحية العميقة الجوانب المهنية والفنية للعلاقات داخل الفريق علاقة الممثل بالمخرج، وزملائه، والجمهور فهم ذهنية كل من الكاتب، المخرج، الممثل... وكل منهم له منظوره ومفاتيحه الخاصة. الواقع الذي يفرضه مستوى الإبهار البصري الذي يعيشه جيل اليوم يحتم علينا أن نفكر عميقً بما يوازي هذا التغير الهائل في أذواق ونمط المشاهدة عبر إيجاد كليات وأكاديميات متخصصة في موضوعات دقيقة مثل: السينوغرافيا توظيف الذكاء الاصطناعي في المسرح وسأعود للحديث بشيء من التوسع عن هذا الرهان في نهاية هذه الأطروحة * أفكار جديدة في بناء المسرح هنا بعض الرؤى التي أرى أنها ضرورية لأي مسرح يُبنى في المستقبل: صالة خاصة لتصميم الأزياء المسرحية، مزودة بالأدوات والمرايا والإضاءة المناسبة. أماكن مخصصة لمخازن الديكورات، مع آليات رفع وتحريك ذكية. خشبة مسرح متعددة المستويات، تتسع للفرق الموسيقية والجوقات، وتُشكل مساحة ديناميكية حقيقية. ورش خلفية لصيانة التقنيات، وإنتاج قطع الديكور والإكسسوارات. بل أكثر من ذلك، يجب أن نفكر في تحسين تجربة الحضور، وهنا نتساءل لماذا لا يُضم للمسرح مقهى ثقافي أو معرض دائم وعروض تفاعلية عبر الشاشات ومسابقات متنوعة في مجال المسرح بجوائز قيمة تدفع نحو تشجيع الحضور والإقبال بحيث تكون المسارح مفتوحًة للزوار حتى خارج وقت العروض، ليتحول المسرح من مكان مناسب ل"حدث" إلى فضاء دائم للحياة الفنية. الإعلام والمنصات يجب أن نعيد التفكير في علاقتنا مع المنصات الكبرى مثل شاهد وMBC. وثمانية؛ هل من الممكن صناعة شراكة تُعيد بثّ العروض المسرحية بشكل احترافي؟ أو خلق منصات خاصة بالمسرح ترفع من ثقافة الممارس وتثري ثقافة المهتم وتعزز من حضور المسرح حتى داخل المنازل؛ أي أننا بحاجة إلى خلق علاقة جديدة بين المسرح والجمهور الرقمي. التوجه الدولي وتحديداً شرقًا، نحو الصين مثلاً، يمكن أن يكون بوابة للتعاون في مجال تصميم المسارح المتنقلة، والتقنيات الحديثة في الإضاءة والخدع المسرحية. المسرحي الشغوف أحد أهم الرهانات بناء مسرحي شغوف، يرى المسرح خارج حدود منطقته. يسافر إلى لندن، يحضر عروض برودواي أو ويست إند، يزور المتاحف المسرحية، يتأمل التقنيات، ويتفاعل معها... ثم يعود ليصنع عرضًا سعوديًا بنكهة عالمية. السينوغرافيا والإبهار البصري تشكل ضرورة قصوى اليوم لأننا نستهدف متلقي لديه عين شاهدت عشرات الآلاف من المشاهد والفيديوهات والمقاطع والمسلسلات التلفزيونية والأعمال السينمائية وهذا يتطلب مسرحاً قادراً على مواكبة هذا المستوى من التطور البصري وهذا لن يتحقق دون صناعة سينوغرافيا قادرة على إمتاع وإدهاش هذا المتلقي الجديد، وربما تكون الدعوة لوجود شركات وخبراء ومؤهلين في مجال السينوغرافيا أمر في غاية الأهمية، ولعل إنشاء شركة استشارية خاصة بالسينوغرافيا والمرافقات الفنية الأخرى مثل استوديوهات التسجيل وورش عمل الأزياء وقاعات الرقص المتخصّصة وغيرها ليساهم مستقبلاً في خلق متعة بصرية قادرة على خلق الدهشة. من ورقة الأمسية المسرحية المقامة بجمعية الثقافة والفنون بجدة