في عصرٍ طغت فيه الصورة، وباتت الشاشات هي نافذتنا الأولى على العالم، تتراءى لنا الأغنية غالبًا محاطة بهالة من المؤثرات البصرية التي تأسر العين قبل الأذن. فما إن يبدأ اللحن حتى تتقاذفنا عناصر المشهد المتعددة: الفرقة الموسيقية بتشكيلاتها، وحركات الكاميرا التي ترقص بين العازفين، وحيوية الأداء التي تشعّ من وهج الآلات، والحضور الكاريزمي للمطرب، وصولاً إلى تفاعل الجمهور المبهر الذي يضفي حيوية على الأجواء، وتصميم الديكور الذي يرسم خلفية فنية للوحة الصوتية. كل هذه التفاصيل البصرية، وإن كانت تضفي بُعداً جمالياً وتفاعلياً، إلا أنها غالبًا ما تسرق انتباهنا عن الجوهر الحقيقي الذي تسعى الموسيقى لتقديمه. كل تلك العناصر الفاتنة تحجب عنا عمق اللحن ذاته، وتصرفنا عن الحديث العميق الذي يتبادله العازفون عبر آلاتهم، وتلهينا عن الجهد الإبداعي الروحاني الذي سكبه الملحن في صياغة عمل فني يتجاوز المألوف ليلامس شغاف الروح. إننا، وبفعل هذه البهرجة البصرية، نغفل عن الاستمتاع بالتركيز المطلق على عظمة التجربة السمعية. لكن ماذا لو جرّدنا أنفسنا من كل هذه المؤثرات البصرية التي تتنافس على جذب حواسنا؟ ماذا لو أغمضنا أعيننا للحظة، أو حتى أطفأنا شاشة التلفزيون أو الجوال، وانتقلنا إلى السماع الصوتي البحت وأطلقنا العنان لكل الحواس لتغرق في التفاصيل النقية للعزف؟ في تلك اللحظة الساحرة، نتحرر من قيود المشاهد التي تشتت التركيز، ونصبح قادرين على تأمل حقيقة الموسيقى كما هي. يمكننا أن نستشعر بعمق مقدمات الأغاني التي غالبًا ما تحمل مفتاح العمل، ونغوص في الكوبليهات التي تتوالى كقصة فنية مترابطة، ونستمتع بحوار الآلات الذي ينسج معزوفة فريدة من التناغم والانسجام. بعيدًا عن ضجيج الصورة، وعن بهارج المشاهد، تتيح هذه التجربة فرصة فريدة لمنح الموسيقى حقها الأصيل في أن تحيا فينا بقدراتها المحضة، فعندما تنصت الأذن وحدها، دون تدخل العين، يصبح اللحن هو البطل المطلق، وتتجلّى قوة التعبير الصوتي في أسمى صورها. بصيرة العودة إلى جوهر الإبداع الصوتي، والاعتراف بأن القيمة الحقيقية للعمل الموسيقي تكمن في قدرته على تجاوز ما هو مرئي، ليلامس أعمق نقاط الإحساس البشري ويخلق تجربة روحانية تتجاوز حدود الواقع المادي، لتصبح سيمفونية تعزف في أعماق الروح بكل عظَمتها.