كثيراً ما يقع بعض الأفراد في فخ انتظار الظروف المثالية، معتقدين أن حياتهم الحقيقية تبدأ فقط عندما تكتمل الأمور وتتحسن أحوالهم المالية. لكن هل تتوقف الحياة حقاً بانتظار لحظة قد لا تأتي أبداً؟ أم أن هذا الاعتقاد بحد ذاته هو السجن الذي يقيد الأفراد، ويسلبهم اللحظة الحاضرة، ويهدر فرص العيش الحقيقي؟ تلك التساؤلات تضع إصبعها على جوهر أزمة خانقة يعيشها كثيرون: فبعضهم عالقون في الماضي، بذكرياته وآلامه وندمه، وآخرون غارقون في تطلعات مفرطة للمستقبل. وبين هذا وذاك، تضيع لحظة العيش "الآن" الثمينة بسلام. إنها عادة خطيرة يُؤجل بها التطوير والتحسين في الأعمال، والوظائف، والحياة، والراحة البدنية والنفسية تحت ملاحقة "الغد الأفضل" والعمر يمضي. الحياة تدور رحاها الآن، بكل تعقيداتها ونواقصها. التركيز على اللحظة الحالية واستغلالها هو مفتاح التغلب على هذه العادة، ومع دوران عقارب الساعة بلا توقف، يتحول التأجيل إلى عائق حقيقي يفصل بين الإنسان وتحقيق ذاته وراحته في ملاحقة المستقبل، هذا الانتظار هو في حقيقته هدر مستمر لفرص ثمينة لا تُعوّض، لقد رفض أفراد وظائف جيدة لأن أجرها لم يكن مثالياً، وأجّل آخرون صيانة بسيطة لسياراتهم أو منازلهم (كهرباء أو سباكة) بتكلفة زهيدة، فتفاقمت المشكلة وتضاعفت تكلفة إصلاحها، الكثيرون يؤجلون زيارة المستشفى لشعور بألم بسيط وغريب، فتصاعدت خطورته وصعُب علاجه، البعض أجّل شراء منزل صغير طمعاً في منزل أكبر، وآخرون يؤجلون أخذ إجازة للراحة والاستجمام حتى يحين "الوقت المناسب". التأجيل عادة سيئة وتكلفة نفسية وبدنية باهظة، تشير دراسات نفسية حديثة إلى أن المماطلة مرتبطة بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، وانخفاض الرضا عن الحياة. ففي دراسة نُشرت في مجلة "الشخصية والفروق الفردية"، وُجِدَ أن الأشخاص الذين يؤجلون مهامهم يواجهون ضغطاً نفسياً مضاعفاً، ويعانون من تدني راحة النوم وزيادة الشعور بالذنب، مما يؤثر على صحتهم النفسية والبدنية. إضافة إلى ذلك، أظهرت أبحاث في علم الأعصاب أن الدماغ عند الأشخاص الذين يعانون من التأجيل المزمن يواجه صعوبة في التحكم في المشاعر السلبية، مما يجعل اتخاذ القرار والبدء في العمل أمراً معقداً ومقلقاً. هذه النتائج تدعو إلى ضرورة التحرر من عادة الانتظار والبدء بخطوات فعلية ولو صغيرة لتحسين نوعية الحياة والرفاه النفسي. في المقابل، هناك قصص ملهمة لمن بدؤوا حياتهم رغم الصعاب ولم ينتظروا الكمال، يُرى الرياضي الذي يعاني إصابة، لكنه يستمر في التدريب ويحقق إنجازات كبيرة، وصاحب المحتوى الذي خط أولى صفحاته رغم عدم خبرته حتى أصبح مُلهماً، ورائد الأعمال الشاب الذي أسس مشروعه برأس مال محدود وتخطى الصعوبات ليبني عملاً مزدهراً، والشخص الذي قرر أخذ إجازة بسيطة رغم ضغط العمل ليستعيد نشاطه وحيويته. هؤلاء لم ينتظروا الظروف المثالية، بل آمنوا بأن البداية مهما كانت بسيطة هي خطوة نحو النجاح والعيش الحقيقي، الأكثر نجاحاً وإنجازاً في مجالاتهم، والأكثر تحقيقاً لذواتهم، غالباً يتقبلون النقص لإكماله، ويدركون أن الانتظار والتأجيل يسلبهم اللحظة وجمال "الحال والآن". تطبق مبادئ بسيطة، مثل "قاعدة الدقيقتين": إذا كانت المهمة تستغرق أقل من دقيقتين، والقيام بها فوراً. هذه القاعدة، التي روّج لها الكاتب جيمس كلير في كتابه "العادات الذرية"، تساعد على كسر حاجز البدء وتجعل المهام الصغيرة جزءاً من العمل اليومي. كما أن استثمار "الآن"، وتخصيص ولو جزءاً من الوقت يومياً لهواية محببة، أو للتواصل مع الأهل والأحباب، أو لرحلة ترفيهية، أو لتعلم شيء جديد. وكما جاء في مقولة شهيرة: "ليس المهم أن تبدأ في الكمال، بل المهم أن تبدأ." وتتوج هذه المبادئ بخلاصة عميقة من القرآن الكريم والسنة النبوية قول الله تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".