كلُّ عامٍ جديد يهلّ علينا ما هو إلا نافذةٌ تُطلّ على الاحتمال، إنّه صفحةٌ بيضاء تنتظر مدادًا من الإرادة؛ حيث نقف على أعتابه كما يقف المسافر في أول الطريق، تتنازعنا مشاعر مختلطة بين فرحة التحوّل والتجدّد، وخشية التكرار والتردّد. فالأعوام ليست سوى أرقام إن لم نمنحها المعنى فإنها ستبقى تُنقص من آجالنا دون قيمة عائدة، إنّه شكل آخر من أشكال الاستهلاك غير الرشيد للحياة. إنّ الحاجة إلى بدء صفحة جديدة لم يعد ترفًا عاطفيًا، بل هي ضرورة إنسانية تُعيد ترتيب الفوضى، وتُضمّد ما أفسدته الأيام فينا. إنّها صفحةٌ نكتب فيها ذواتنا كما نحبّ أن نكون، لا كما تُجبرنا الظروف. صفحةٌ لا تنكر الماضي، لكنها لا تُرتهن له، إذ تخلع عن كاهلها ثقل الأمس وتُقبل على الغد بنفس خفيفة مفعمة بالتفاؤل. وليس أكرم على الإنسان في مستهل عام جديد من أن يرتقي بذاته، وأن يكون مشروعه الأول هو إصلاح ما أمكنه إصلاحه من نفسه، وتهذيب فوضاه الحاليّة، وترتيب أفكاره الداخلية. فالارتقاء بالذات ليس صعودًا نرجسيًا، بل إنّه تواضعٌ في معرفة مواطن الخلل والإهمال، وعزمٌ على الإصلاح دون ادّعاء للكمال. ومع ذلك فالأمر لا يبدو مثل عصًا سحريّةٍ نضرب بها فتتغيّر أحوالنا للأحسن، بل إنّه إرادة تُعقب بعملٍ جاد، وعزيمةٍ للخروج من منطقة الراحة، لذا قيل: «من لم يُصلح نفسه لم ينفعه صلاح غيره». فالارتقاء هو قرار يومي بأن نكون نسخة أفضل ممّا كنّا عليه بالأمس، وخطوة صغيرة تلو أخرى نحو الشخص الذي نطمح أن نكونه. وفي رحلة التجدّد، فإنّ المسيرة لا تكتمل دون بثّ روح التسامح، فالحياة أقصر من أن نُثقلها بالضغائن، وأقلُّ من أن نتربّصها بالكمائن، وأضيق من أن نُكدّس فيها الأخطاء الصغيرة والهفوات العابرة اليسيرة. فلنُعطِ للناس مساحات من العذر، كما نرجو دومًا أن تُعطى لنا، ولنُخفّف من وقع الأحكام، فما من إنسان إلا وهو يحاول أن يُصيب، حتى وإن أخطأ. وقد قيل: «من لا يُطيق أن ينسى، لا يستطيع أن يُحب». وأقول: من لا يُطيق أن يُسامح، فلا يستطيع أن يبدأ. ولذا فإنّ فكرة أن نُسامح الآخرين لا تعني أنهم يستحقون دائمًا، بل لأننا نحن نستحق السلام وننسى الهفوات، لا لنمحو المسؤولية، بل لنمنح أنفسنا فرصة انطلاقة جديدة دون قيود ماضٍ ثقيل. فهذا التسامح مع الآخر ما هو في جوهره إلا تسامح مع الذات أولاً. إذ لا يليق ببدايةٍ جديدة أن تبدو انتقامية، وكذلك لا يليق ببدايةٍ جديدة أن تبدو بلا وجهة. فالتخطيط الجيّد هو العكّاز الذي يتوكأ عليه الحالمون، والمنارة التي يهتدي إليها العابرون. وليس المطلوب أن نرسم خطة صارمة تُقصي كلّ عفوية، فالحياة ليست معادلاتٍ رياضية، وإنّما أن نضع في قلوبنا نيةً واضحة ورغبة صادقة، وفي عقولنا تصوّرًا مرنًا ونظرةً واعية، توجّه خُطانا دون أن تُقيّدها. ومن باب التفاؤل، فإنّ هذا يُذكرني بمقولة لباولو كويلو في رواية الخيميائي: «إذا رغبتَ في شيءٍ بشدة، فإنّ الكون كلّه يتآمر لمساعدتك على تحقيقه». ومع ذلك فالتخطيط ليس مجرد قائمة أمنيات، بل هو استراتيجية عملية؛ لذا يقول ستيفن كوفي: «ابدأ والنهاية في ذهنك». إذ تبدو هذه المقولة كما لو كانت بوصلةً تقيك التيه وتردّك إلى ذاتك في كلّ انعطافة تُلجَأ إليها. إنّ التخطيط نمط واعٍ قابل للتعديل، وينبغي ألا يرتبط بمناسبة زمنية في أصله، غير أنّ مثل هذه المناسبات تُشبه مِزْوَلة تقيس فيء المراحل، ومواقيت تُجدّد الأطوار، وتُذكرنا باكتمال دورة الزمان، وكلّ ذلك من أجل مراجعة متأنية وتغيير مزمع ذكي.. وفي نهاية المطاف، يبقى عامنا الجديد مجموعة لحظات نصنعها بأيدينا. فلنجعل من هذا العام لحظة فارقة، ونقطة تحوّلٍ نحو نسخة أفضل من أنفسنا، ونحو عالم أكثر تسامحاً وجمالاً. فإنّك لو رحلت بذاكرتك إلى العام المنصرم فلن تتذكّر منه سوى لحظات قليلة.. تلك هي اللحظات التي أعنيها.. لحظاتٌ ستصنع لك فارقًا عظيمًا إن أحسنت استغلالها قبل أن تطالها يد النسيان. ولننظر إلى العام الجديد كفرصة لا كعبء، وكقصيدة مكتملة لقريحةٍ لم تفض بعد.. وعلى أعتابه لِنخبر أنفسنا: آن أوان التجاوز، وحان وقت البناء، ولنبدأ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فبعض البدء حياة.