في عالم يتسارع فيه إيقاع العمل وتُعاد فيه صياغة مفاهيم الأداء والنجاح المهني، تواجه المنظمات اليوم تحديًا صامتًا لكنه بالغ الخطورة: التنافسية السامة. لم يعُد خروج الكفاءات من المؤسسات يُعزى فقط إلى عروض أفضل، بل إلى ثقافات داخلية ترهق النفس وتعطّل التقدير وتُفقد العمل معناه. لقد تحوّلت بعض بيئات العمل إلى ساحات تنافس لا تهدأ، حيث يُكافأ من ينجو، لا من يُبدع، ويُسمع صوت من يُساير، لا من يُضيف. تشير بيانات حديثة من شركة Gallup إلى أن 7 من كل 10 موظفين عالميًا يفكرون في ترك وظائفهم، وأن الاستقالات الطوعية ارتفعت بنسبة 20 ٪ بعد جائحة كورونا. أما في المنطقة العربية، فقد كشف تقرير صادر عن منصة Bayt أن 54 ٪ من الموظفين يخططون لتغيير وظائفهم خلال العام المقبل، وأن العامل الأول الذي يدفعهم لذلك هو "البيئة السامة" في العمل، متقدمًا على تدني الرواتب أو ضعف فرص الترقية. في مقال نُشر مؤخرًا على مجلة Forbes بعنوان "5 Reasons Outdated Performance Reviews Make Top Talent Quit"، توضح الكاتبة كارولين كاستريلون كيف أن نُظم التقييم القديمة تسهم مباشرة في خسارة الكفاءات. إذ يُعدّ تأخير التغذية الراجعة أحد أبرز هذه الإشكالات، حيث تفقد التقييمات قيمتها عندما تأتي بعد أشهر من الحدث. كما تنتقد المقالة اعتماد بعض الشركات على تقييمات قائمة على الانطباعات الشخصية لا الأداء الفعلي، مما يخلق حالة من الظلم والارتباك داخل الفرق. الأسوأ من ذلك، ما يُعرف بنظام التصنيف الإجباري، حيث يُضطر المدير إلى تصنيف نسبة من الموظفين كأداء منخفض حتى في حال تفوّق الجميع، وهو ما يولد مناخًا تنافسيًا مرهقًا يقتل روح الفريق ويشوّه العلاقات المهنية. ولتجاوز هذه المعضلات، يقترح المقال حلولًا قابلة للتطبيق، مثل اعتماد نظام ملاحظات مستمرة بعد كل مشروع أو لقاء دوري، وتفعيل التقييم المتعدد المصادر لضمان العدالة، وفصل مراجعة الأداء عن أية عقوبات مباشرة. كما يوصي بفتح المجال أمام الترقيات والتنقل الوظيفي داخل المؤسسة دون الحاجة لتهديدات أو استقالات. والأهم من ذلك كله، هو بناء ثقافة توازن بين الشفافية والثقة، تُشعر الموظف أنه شريك لا مجرد "رقم" في قائمة الأداء. إن مستقبل العمل لم يعُد يُقاس فقط بالإنتاجية أو الوقت المقضي خلف المكتب، بل بنوعية العلاقات المهنية، وبمدى شعور الإنسان بقيمته ودوره. ومع دخول الذكاء الاصطناعي والجيل الجديد من القوى العاملة، سيكون على المنظمات أن تعيد تشكيل ثقافتها لتواكب معايير أكثر إنسانية. فالقائد الناجح لن يكون من يُقصي المختلف، بل من يصنع بيئة تسمح للجميع بأن يزدهروا. التنافسية السامة ليست انعكاسًا للنجاح، بل عرضًا لأزمة أعمق. وإذا لم تتدارك المؤسسات هذا الخلل، فقد تستفيق ذات يوم لتجد أن أفضل عقولها غادرت بصمت... إلى حيث يُقدَّر الإنسان أولًا.