كانعكاس لحالة الإنسان المعاصر في بحثه الدائم عن المعنى وسط تعقيدات الوجود، تنبري جدليات لتساؤلات العقل، والذات، والمجتمع، والحقيقة، حيث تتشابك (طموحات الحداثة بعقلانيتها الشمولية التي انبثقت مع عصر التنوير، كطفرة على الأنماط التقليدية في التفكير والمجتمع. والسعي لتحرير الإنسان من قيود الميتافيزيقا، والرنو لبناء عالم قائم على العقل والعلم واليقين، واعتبار الإنسان جوهر كل شيء)(ومع تشكيكات ما بعد الحداثة بنسبيتها وتفكيكها، لإعادة إنتاج الحداثة بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات، "كديناميكية"جديدة أنتجت أفكاراً وخصبت الفكر الإنساني، عبر خلق روح إبداعية جديدة للإنسانية، بمعاول الشك والتفكيك والتعددية، وتأكيداتها حول ماهية العالم الذي لا يمكن اختزالها في حقيقة واحدة، بل كفسيفساء من الحقائق النسبية والمتعددة). وفي ظل تبني الحداثة وما بعد الحداثة أنساقاً تحديثية ومنهجيات فلسفية وتعبيرية تنحاز لتسطير الجديد والتركيز على تخصيب الأفكار وتأطير المشاعر، واستناداً إلى زخم المتحولات التي كفلتها الروح التجريبية وأسس العقلانية الحداثية وما نتج عنها من طروحات جمالية وفكرية في سلم تنامي المصطلحات الفنية والمذهبيات الأسلوبية والمنهجيات الراعية لتخصيب مخيلة الفنان وانطلاقه من تقويض البنى الفلسفية والابستمولوجية للتأليفات الفنية المعاصرة. ينبري مصطلح "الجروتيسك"كمفهوم فكري (لنقد الواقع) عبر مبالغات وتضخيم الانفعالات لابتداع أشكال غرائبية تجذر تجسيد الانفعالات والأحاسيس والأشياء وتصوير الأشياء من الداخل بدلاً من تشخيص تلك الأشياء. كفعل لهيمنة التغاير والنحو إلى اللا مألوف، وابتداع أفكار مستحدثة ذات طابع جروتسكي يحتفي بعمليات التشويه والمسخ والغرائبية والتناقض والتنافر والتهجين، وشحذ الانفعالات والنوازع الداخلية، وتجاوز مستويات المعتاد لصالح المتحولات اللامألوفية والماورائيات الشكلانية المنفلتة من براثن وقيود الاتباعيات وخلخلة السياقات العرفية التقليدية. "فالجروتيسك"أو"الغروتيسكا"من الإيطالية"غروتا""grotta"انحدر"الجروتيسك" بداية من مشاهدة مناظر رسومية عثر عليها داخل كهوف رومانية لشخوص وحيوانات أسطورية غرائبية توافر فيها (الخيالي - مع النزوى - مع الوهمي - والعجائبي)، وتطور المفهوم في مطلع القرن السادس عشر عندما ارتبط المصطلح بتشخيص كل عمليات التشويه والتحريف والتنافر المبالغ فيه في الهياكل الجسمانية وملامح الوجوه والغريب الخيالي في أمثولات الأحاسيس والمشاعر، كهدف في حد ذاته يعمق من العجائبي غير المألوف، ثم تجذر في القرن الثامن عشر، وعرف "بالجروتيسك" "grotesque" كاتجاه فني يرمي نحو تمرد على (بنية الشكل وسكونية الموضوع - محاكاة خارجية ومماهات استنباطية امتثالية) لصالح التنقيب في غير المكتشف واجترار ما فوق الطبيعي وتلبيسه بثوب المتناقضات والمواقف المزدوجة داخل عوالم من المتضادات، والنحو عن مدارات الواقع في شموليته والمقاييس الذهنية، عبر استخدام عناصر آدمية وحيوانية لا واقعية. ففي كتابه الحكاية العجائبية، ذكر الكاتب "بياركا ستيكس" (أن تمايز العجائبي يأتي بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الحياة الواقعية بما لا يتوازى مع التنسيق الحكائي المألوف، وتصدع للنسق المعترف به واقتحام من اللامقبول لصميم الثابت الفني الذي لا يتبدل) ليمثل "الجروتيسك" بذلك نزعة فنية تميل إلى تضخيم المشاعر والانفعالات والخيالي والمتوهم وكذلك التعبيرات المختلفة المصاحبة للهيئات الشكلية الشوهاء كالمسوخ عن طريق المبالغة في نسب وهيئة المفردات الشكلية ومجموعاتها اللونية وتوزيع الظلال والشدات الإضائية بهدف ابتداع سيناريو ميثولوجي لرغبة مصدره اللاواعي، وتصدير تأليفات فنية تبلغ من حد ترويعها وحدتها وتكثيف مفهومها إلى الدرجة التي تصطدم المشاهد وتحفز تفاعله وتدفعه إلى التعاطف أو الانزعاج والاندهاش والامتعاض، بهدف اقتلاع الروح من واقعها والانتقال بها إلى عوالم أخرى تقتحم العنيف الغامض المجهول الخارق، ليتشكل كل ما فوق الطبيعي في إطار المحكي الواقعي، وشحذ أحداث غير مفسرة. عندما كانت الفكرة هي الهدف الحقيقي للفن بدلاً من الأثر الفني، تمايزت المنهجية في"الجروتيسك" بآلياتها الدراماتورجية، وقدراتها نحو تحفيز مخيلة الجمهور، ومخاطبة عقولهم ووجدانيتهم، واستثارة انفعالاتهم بالسلب أو بالإيجاب، بخصوبة الخيال، وتفضيل موضوعات البشر الذين أحاطت بهم الوحوش الشوهاء، والشخوص التي أصبحت ضحية سلبية للألم والاحتضار. فانطوت الأشكال على نوع من المسخ والجمال المخيف، بل بدت "وحشية شنيعة" ويكاد يستحيل التعرف فيها على أي عنصر إنساني، حتى أصبحت رموزاً، جمعت في دلالاتها إشارات الهجاء اللاذع والشفقة التهكمية، عبر قدرة تحويل ما هو بشع إلى جميل، ومعالجة المحتوى القبيح كما يعالج الجميل بفنية خالصة تخفف من شناعته، لينفذ بذلك الفنان إلى عمق الذاكرة حيث العوالم المجهولة الكائنة فيها "قبل الميلاد وما بعد الموت". وبالرغم من غموض موضوعات عدد من الفنانين إلا أنهم اتجهوا لخلق أسطورة تتخطى حدود الزمن المحدود إلى ما وراء الزمن وتشكيل أشياء تستحوذ على مكان خارج حدود الزمن له شكل وهيئة ظاهرية مصبوغة بعواطف صانعها وقد تحولت إلى شكل معبر، حيث صوروا أشخاصاً يعانون من تمزيق أجسادهم وطمس بعض معالمهم الشكلية، وحرقت الوجوه الأنثوية لتقترب من وجوه الرجال، (ومال البعض الآخر لإظهار شخوص أعمالهم وهي تعاني جراء تعرضها للاختراق والنفاذ من قبل عناصر أخرى - بينما اهتم آخرون بإخفاء مفردات شكلية وراء أخرى كصياغة الوجه البشري والتي تخفي ملامحه وتحاصره عدد من المفردات مثل القطع الحديدية والمخالب القوية والمسطحات الحجرية الصلدة). ومن خلال الحرفية التي تكشف عن قدرة فنية، استعرضت أمثولات فنية جروتسكية تميل إلى مبالغات وتشويهات تحريفية في العناصر وتضخيم الانفعالات عن طريق تكثيف الظل والنور والمبالغة في إظهار العديد من البروزات داخل المفردات، وكأن مسطحاتها عبارة عن تضاريس جبلية عديدة. حيث نزعت تلك الطريقة الأسلوبية نحو التغلب على الممارسات المعتادة ومهاجمة صور التعبير المصقولة والنقلات السلسة في الارتفاعات والانخفاضات والتي تنتج تأثيرات أشبه بالرعب والارتباطات المزعجة التي تعزز المعنى والحبكة الدرامية التي يبغى الفنان توصيلها للمشاهد بغرض صدمته ومفاجأته بأفكار غير معتادة واقحامه في العوالم الصاخبة المليئة بتيارات وحشية. * الأستاذ بقسم التصميمات البصرية والرقمية المساعد عمل رفاعي أحمد عمل أيمن حلبي عمل عبدالله إدريس عمل أحمد طلاع