في عصر تحولت فيه الشبكات الاجتماعية إلى ساحة عالمية للتواصل، برزت ظاهرتان متلازمتان تشكلان تحديًا عميقًا للتناغم والانسجام الاجتماعي والثقافي بين الشعوب وهما: الشعبوية الرقمية والشغب الإلكتروني. وهذا الوضع لم يكن مفاجئًا بعد أن أعادت الشبكات الاجتماعية، بوصفها "جمهورية عالمية رقمية"، تشكيل مفهوم الفضاء العام وبالتالي ملكت قدرات تحريك "المزاج" العالمي دون مرجعيات أخلاقية أو مهنية تضبط السلوكيات وتحظى بقبول معقول. إن منصات مثل تويتر (إكس حاليًا) وفيسبوك أصبحتا أدوات حاسمة لتضخيم الأصوات الشعبوية وفقا لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2023، حيث تتيح تقنياتها الفورية انتشار الخطابات العاطفية بسرعة تفوق قدرة الأفراد على التحليل النقدي. وبهذا تخلق هذه المنصات، (بتصميمها القائم على التفاعل السريع والخوارزميات التي تعزز المحتوى المثير)، بيئة خصبة لإثارة العواطف الجماعية، مما يغذي الاستقطاب ويحول النقاشات والحوارات إلى مواجهات. والشعبوية، كما عرفها عالم السياسة Cas Mudde في كتابه "الشعبوية: مقدمة قصيرة جدًا"، تعتمد على تقسيم الناس إلى "شعب نقي" مقابل "نخبة فاسدة". وتعزز الشبكات الاجتماعية هذا الخطاب عن طريق تمكين الأفراد من التعبير عن استيائهم مباشرة، متجاوزين المؤسسات التقليدية التي لا تملك سرعة الاستجابة والتفاعل مع الخطاب الإلكتروني السريع الحركة والوصول ومن ثم التأثير. ويتعزز هذا الزعم بنتائج دراسة نشرتها مجلة "Nature Communications" عام 2024 حيث وجدت أن المنشورات ذات الطابع الشعبوي، التي تستخدم لغة بسيطة ومباشرة وتستثمر في الغضب أو الخوف، حصلت على تفاعل أعلى بنسبة 60 % مقارنة بالمحتوى العقلاني المحايد. ومما يميز الخطاب الشعبوي على الشبكات الاجتماعية أنه يظهر بسيطًا مشحونا بلغة عاطفية مفرطة. وبشكل أكثر تفصيلًا وبحسب نظرية "الإطار الشعبوي" (Populist Framing) يعتمد هذا الخطاب على ثلاث ركائز: التماهي مع "الشعب"، والتشكيك في النخب، واستغلال الأزمات. وتحول الشبكات الاجتماعية، هذا الخطاب إلى حملات أكثر فاعلية، حيث تتيح للأفراد تشكيل "غرف صدى" (Echo Chambers) تتكتل فيها أصوات المؤيدين وبذلك تتعزز الخطابات الشعبوية وتكتسب عمقا وتأثيرًا أوسع. والإشكال هنا أن حرية الرأي والتعبير يصبحان الضحية لسطوة الشعبوية الرقمية والشغب الإلكتروني جراء الشغب الرقمي المكثف الكفيل بدفن الحقيقة أو تشويهها وبالتالي إنهاك جسور العلاقات الثقافية والحضارية بين المجتمعات المتنوعة. وحتى في الدول التي تملك إرثًا كبيرًا في مفاهيم الحرية والقانون لم تسلم من هذا التحدي. ففي دراسة أجرتها مؤسسة "Pew Research Center" عام 2023 تبين أن 70 % من مستخدمي الشبكات الاجتماعية في الدول الديمقراطية يشعرون بانخفاض الثقة في المؤسسات بسبب انتشار الخطابات الشعبوية. ويضاف إلى ذلك أن انتشار خطابات الشغب الإلكتروني، مثل حملات التشهير أو التضليل ضد فئة أو أقلية، يؤدي بالنتيجة إلى تآكل رأس المال الاجتماعي، بتغذيته للانقسامات بين المكونات الاجتماعية للدول كما هو الحال في بعض دول أوروبا ضد الأقليات والمهاجرين. إذ تسهم الشبكات الاجتماعية في تعزيز ثقافة النزاع من خلال تضخيم الروايات القائمة على الهوية على حساب الآخرين. وفي سياق الشبكات الاجتماعية، تتحول هذه الحالة غير المنضبطة قانونا وربما خلقا إلى نزعة لتكريس "نحن" مقابل "هم"، مما يغذي الانقسام وثقافة الخصومة وربما القطيعة مع المختلف لونًا أو عرقا أو معتقدًا. هذا هو الحال الذي ينتظر الحل للتخفيف من الآثار والتحديات التي تمثلها الشعبوية والشغب الإلكتروني لضمان أن تكون "جمهورية الشبكات الاجتماعية" شعبية لا شعبوية وفضاءً للتواصل البناء، لا للانقسام والشغب. * قال ومضى: علمتني الإنترنت أن الأسوأ من فقدان الحرية هو إساءة استخدامها حينما تتاح.