عندما زار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرياض الأسبوع الماضي، بعد ثماني سنوات من زيارته الأولى، كانت ملامح المشهد قد تغيرت. لم تعد العناوين الرئيسة تقتصر على مكافحة الإرهاب وصراعات الإقليم، وإن بقيت حاضرة، بل تقدمتها سمتان: الحفاوة العربية الأصيلة، واستثمار نوعي في الذكاء الاصطناعي. يكشف المشهد العام عن تحول متسارع، رغم التحديات التي تعصف بالمنطقة. فدائرة التنمية تتسع، والمركز السعودي يزداد صلابة، موصلاً طاقته التنموية إلى عمق المنطقة وما وراءها. تزامنت زيارة ترمب مع الإطلاق الرسمي لشركة (هومين)، أحدث مبادرة في الذكاء الاصطناعي، مدعومة من صندوق الاستثمارات العامة. طموح الشركة معلن: ترسيخ مكانة المملكة كقوة ذات سيادة في الذكاء الاصطناعي. لكن البعد الأهم في المشروع هو موقعه في سياق التوازنات الجيوسياسية. عبر هومين، تنخرط السعودية في شراكات تقنية بمليارات الدولارات مع شركات أميركية كبرى، من بينها إنفيديا، وأي إم دي، وأمازون. والهدف: بناء بنية تحتية رقمية متقدمة تنطلق من المملكة، وتعتمد على تقنيات أميركية رائدة. تشير الأرقام إلى نقلة نوعية: 10 مليارات دولار من أي إم دي، ومجمع ذكاء اصطناعي بقيمة 5 مليارات دولار من أمازون، وآلاف من رقائق بلاكويل من إنفيديا. كما أبرمت سوبرمايكرو اتفاقا مع داتافولت لإنشاء مراكز بيانات في السعودية والولايات المتحدة. هذه الشراكات تمثل الأهم منذ بدايات التعاون النفطي بين البلدين. لا يتعلق الاستثمار بمجرد بنية تحتية رقمية أو نقل للتقنية، بل بتحول في موازين القوة الناعمة والصلبة في آن معا. تدرك المملكة أن من يملك مفاتيح الذكاء الاصطناعي اليوم يملك أدوات التأثير غدا في الاقتصاد، والتعليم، والأمن. هذا التوجه يعكس فهما عميقا للتحول من استيراد التقنية إلى المشاركة في صناعتها وتوجيهها. ومع تصاعد التوتر بين القوى الكبرى حول مسارات الذكاء الاصطناعي، تتقدم المملكة لاعبا يجيد إدارة التوازن الاستراتيجي بقدرته في بناء شراكات متنوعة دون أن يقع في فخ الاستقطاب الثنائي. إنها مقاربة مرنة، لكنها واضحة في سعيها للريادة الرقمية. وخلال الزيارة ظهر ترمب بشخصية صانع الصفقات التي يفاخر بها، بينما بدا -كعادته- ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مهندسا لرؤية مستقبلية شاملة. وقد اختار ترمب الإشادة بدور ولي العهد في ملفات شائكة، مثل رفع العقوبات عن سوريا، وهو ما يندر التصريح به علنا في عرفنا السياسي السعودي، لكنه وجد من ترمب تقديرا وتوثيقا يليق به. تعكس الزيارة أن المملكة ماضية، ضمن رؤية 2030، في تعزيز موقعها الدولي، ليس فقط باعتبارها منتجا للطاقة، بل باعتبارها لاعبا رئيسا في الاقتصاد الرقمي. أما ترمب، فقد وجد في المملكة الحليف الأكثر توازنا ووضوحا في منطقة تتغير معادلاتها سريعا.