من يتابع العلاقات بين الدول لا يحتاج إلى نظارات أيديولوجية ليفهمها، بل إلى بوصلة مصالح، ومن يهتم بالزيارات الرسمية، واللقاءات الدولية، والقمم المشتركة، يعرف أنها ليست مجرد بروتوكولات، بل رسائل محسوبة، وموازنات دقيقة، وتحالفات تصنعها الحنكة، لا العاطفة. بلادنا المباركة، المملكة العربية السعودية، كانت ولا تزال، حاضرة في عمق تلك المعادلات، تُدير ملفاتها من مركز التأثير لا من أطرافه، وتقرأ المتغيرات بعقل السيادة لا بانفعال الجماهير؛ وزيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب للمملكة، وبعيدًا عن شخصه أو خطابه السياسي، حملت دلالات عميقة على إدراك المملكة لواقع العالم وتحولاته، وكيف يمكن لدولة ذات ثقل أن تُحسن قراءة المصالح دون التفريط في الثوابت. ليس من الذكاء أن ننظر إلى زيارة ترمب من زاوية الولاء أو الخصومة، بل من زاوية السيادة الواعية؛ فالدول العاقلة تتقاطع حيث توجد المصالح، وتبتعد حين تستدعي الكرامة ذلك، وتفاوض حين تلوح الفرص، وهكذا كانت «الرياض»، وهكذا تستمر، وترمب، الذي زارنا من جديد في لحظة أكثر حساسية وسياق دولي أشد تعقيدًا، أعلن من عاصمتنا، قرارًا تاريخيًا برفع العقوبات الأمريكية عن «سوريا»، بطلب مباشر من سمو سيدي ولي العهد، حفظه الله ورعاه، وبدعم إقليمي مؤثر، وهو قرار لم يكن سياسيًا فحسب، بل إنسانيًا، ونتاج قراءة دقيقة لمعاناة شعب شقيق، ورغبة حقيقية في إعادة التوازن للمنطقة. في سياق زيارة ترمب، لا يخفى ما حملته تصريحاته من إشادات صريحة وصحيحة: «لدينا حلفاء رائعون في العالم، لكن لا يوجد أقوى من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. أعرفه منذ وقت طويل، [وهو الآن لا يشبهه أحد].. في آخر 8 أعوام، أثبتت المملكة خطأ من انتقدها في التحول الذي حدث.. شرف هائل لي أن أعود إليها.. من المذهل أن يصبح غالبية الاقتصاد السعودي متفوقًا على النفط...»، وهي عبارات لا تُقال عبثًا، ولا تُسمع يوميا، بل تُعلن بوضوح موقع المملكة، ومقام قيادتها، ومدى ما يُكنه العالم من احترام لثقلها وتأثيرها؛ ومن المهم جدا، التذكير بأن الدول الرشيدة لا تُصنّف مواقفها بمنطق «مع أو ضد»، بل تُدير علاقاتها على قاعدة: «ماذا نكسب؟ وماذا نحفظ؟»، ولهذا كان التعامل مع زيارة ترمب، لا تزكية، ولا تنصلًا، بل استثمارًا في وقت حساس، لمصلحة الخليج، والوطن العربي ككل، والمصالح من هذا النوع ميزانها دقيق، ولا يمكن أن يضبطه إلا من رزق فقهًا في «الواقع»، وفقهًا في «التوقع».. أختم، بأن الناس يختلفون حول الأشخاص، خصوصاً إذا سلموا عقولهم لعواطفهم، لكن الدول لا تُدار بالعاطفة، بل تُبنى بالرؤية والعقل؛ والمملكة – بحنكة وشموخ ولي العهد الأمين– أحسنت إدارة اللحظات التاريخية لزيارة ترمب، لأنها تعرف متى تُصافح، وتُفاوض، وتضع أوراقها على الطاولة، وستبقى في قلب الأحداث؛ تُمسك ب«العصا» دون أن تنكسر، وب «الجزرة» دون أن يصيبها العفن، وتعرف متى تبادر، وتتأنى، وتُعيد رسم خارطة الاستقرار، عربيًا ودوليًا، والرسالة التي يجب أن تُفهم من الزيارة، ومن قرار الرفع تحديدًا، ليست سياسية بحتة، بل سيادية بامتياز، وشاهدًا جديدًا على أن المكانة لا تُمنح، بل تُكتسب، وأن القيادة التي تتقدم المشهد لا تفعل ذلك بالصوت المرتفع، بل بالفعل الوازن، الذي سار عليه جلالة الملك عبدالعزيز، ولم يحد عنه أبناؤه الملوك، رحمهم الله، ويرعاه اليوم والدنا الملك سلمان، وحامل رايته وولي عهده سيدي الأمير محمد بن سلمان، الحريص على أن تكون المملكة في قلب القرار العربي والدولي، لا على هامشه.