«يجب أن نشيّد تمثالًا لفقدان الذاكرة ومن ثم ننسى أين وضعناه؟»، هذا ما قالته الناشطة الإيرلندية إدنا، فاسترجاع الذكريات من أبسط الإدراكات الحسية المحفزة لأن فيها من روح الآخرين لذلك لا بد أن نخضع الذاكرة لقانون التقادم فلا ننشطها بالحديث والتذكر إلا إذا كان حنينًا تأمليًا كما كتب فلاديمير في مذاكراته «تكلمي أيها الذكريات». يقول لويس هايد في كتابه أدب النسيان: (يجب علينا أن ننسى عوالم بأكملها قبل أن نستطيع استحضار الأشياء الأبدية في أذهاننا. ففي النسيان يكمن انحلال الزمن). وما ينبثق الإبداع لدى الشخص إلا بعد تعاون الذاكرة والنسيان والمحو والخيال وكل ما أهملناه وكل مالا نفكر به وكل مالم يكن في الحسبان يحتفظ بكامل زخمه فما أن تأتي اللحظة الشاردة حتى يلوح في أفق الذاكرة ويتهادى سابحًا في بحر الذكريات ليعود بنا إلى الذكرى القديمة كما حكى مارسيل بروست في روايته البحث عن الزمن المفقود بأن كعكة المادلين الصغيرة والتي يغمسها في قليل من شاي الأعشاب أعادته إلى منزل عمته عندما كان يقضي صباحات يوم الأحد برفقتها. فكم من زمن فتح لنا باب الأبدية بعدما تخلينا عن الأشياء الزائلة سواءً أكانت ماضية أم مستقبلية و كما ذكر أوغسطين بقوله: «إني مبعثر في الأزمنة التي استغلق علي فهمها...». بينما التعامل مع الذاكرة وكأنها فعل يؤدي إلى مرحلة الخلاص وهذا رأي عالم النفس الفرنسي بيير جانيت. وتظهر معرفة الذات من خلال نسيانها فيتعلم المرء ألا ينهمك كثيرًا في ذاته. فقد كان يرسم الفنان برايس ماردن أحيانًا بعصًا طويلة لكي ينسى نفسه. وعندما يرسم بيكابيا فهو يعلن رغبته في التحرر من أفكاره الخاصة والثقافة التقليدية حول المعنى والجمال والموضوع فكل لوحاته ومنها لوحة: خذني إلى هناك هي بيان بأنه لايعرف أي شيء نهائيًا حتى يشرع في الرسم بذهن صافٍ كليًا. لذلك أتساءل: هل يتخلى الإنسان عن فائض المعرفة الممل لكي تدب فيه الحياة؟. وهنا تكمن أيضًا أهمية تطوير العادات ومقاومة أوتوماتيكيتها لأنها ضرورة للنهضة والتطور والابتكار. ولنيتشه رأي في ذلك عندما قال: (الرجل المحب للعمل ينسى الكثير من الأشياء لينجز شيئًا واحدًا). ثم نعود إلى النسيان ففي ممارسة الجينالوجيا يتعمق إحساس المرء بهويته إلى أن يختفي الإحساس بها فدراسة الذات هو نسيانها وكأنها مهمة وسقطت في غياهب النسيان بشكل أسرع من المهام التي لم تنتهِ بعد. لذلك يرى فرويد في موضوع التذكر والعمل على الذات بأنه يجب منح المريض الوقت حتى يتعرف على العوامل التي يجهلها ثم يعمل عليها لإزاحتها. ثم يستطيع المرء أن يتعافى من الحادثة المؤلمة أو يمكنه التعامل معها عن طريق حل أو محو سماتها الخاصة وتحويلها إلى رموز. والرمز عند هيقل قتل الشيء فيمكن للمرء أن يدفن إحدى ذكرياته من خلال صنع رمز مميز لها. وهذا ما تميل إليه الطبيعة الحقيقية لكل الموجودات في إخفاء ذاتها فتطغى السرية على العالم وعلى الشكل ولا يفسر كل ماهو خفي سوى الأنبياء والملوك العادلون والشعراء ليس لأجل استعادة الماضي وإنما لكشف الحقيقة السرمدية للأشياء وكينونتها المبهجة.و من مر بتجربة لم يستطع أن ينساها يتساءل: أهل سأنسى؟. ومابين الوجود والأساطير ذكر هوميروس في أعماله نبات النابنط الذي يخفف من آلام البشر وكذلك زهرة اللوتس والتي تنسيهم أوطانهم. عرضت بعضًا مما جاء في كتاب أدب النسيان للكاتب لويس هايد ثم كأنني الآن أقف على حافة الذاكرة وأنظر إلى فضائها وفي الأسفل أبصر فراغًا صامتًا ولا حدود له وأمامي فضاء أوسع لا يبدد الصمت وإنما يدعوه إلى الاستمرار بينما أستجلب أحداث الماضي لأعيشها مرة أخرى بينما الذكريات تتربع في مؤخرة رؤوسنا وكأنها تريد أن تختبئ حتى لاتعود. وعندما أقول: ياالله، كأنني أبتغي عونًا منه بأن يمسح على قلبي فيعينني على تحملها أو نسيانها.