حين وقفت في مقالة الأسبوع الماضي على شرفة أطلُّ من خلالها على التاريخ الثريّ لفناننا القدير محمد عبده.. هاتفني عدد غير قليل من الأصدقاء «الطلاليين» لا سيما وقد كنت ومازلت واحداً منهم، وهم يتذاكرون معي فناننا العظيم صوت الأرض، ويستحثوني للوقوف به وما كنت لأفوّت هذا لا سيما ونحن نعيش اليوم الحادي عشر من أغسطس الذكرى الثالثة والعشرين لرحيله، رحمة الله عليه، حيث خطف قلوبنا وأرواحنا وهو يتهاوى من على مسرح المفتاحة ممسكًا بعوده ومودّعاً بصورة لا تفارق خيالاتنا.. وربما كان قدره الوجودي أن يموت منشدًا ليخلد صوته.. حينما كان ومازال صوت الأرض فينا، والحقيقة أنني ككثيرين غيري ننفر من فكرة التنافس إلى فكرة التكامل بين كلا الفنانين في الحضور والغياب معاً، فحتى بعد هذه السنوات الثلاثة والعشرين لا يزال طلال مداح حاضراً في الغياب صوتًا تتناقله الأجيال حنيناً وذاكرةً، وتتهاداه الأذواق حباً، ويتبادله العشاق رسائل فيما بينهم، ولا يزال محمد عبده مكملاً لمسيرته الثرية متجدداً فينا. هذا على مستوى تاريخ الأغنية السعودية وواقعها، لكن الطلاليين يحفظون لطلال مداح تلك البساطة التي تميز بها طوال تاريخه، وذلك الشغف الكبير الذي يمنح الكلام إحساساً طاغياً يتجاوز الاحتراف ومداخيل الغناء، فطلال أحب الغناء للغناء، فكان إحساسه غاية وحضوره شغف.. طلال مداح كان دائماً صوته الأرض التي أنبتت نايًا لغناء العصافير، ونظّارته الفسيحة المحيطة بعينيه الضاحكتين شجناً لا تنتهي منه إلا لتبدأ من جديدٍ إليه، ملامحه الضاربة بالعفوية، خارطة لبراءة الصورة من عبث الفلاشات المستحقة، وبراءة سحنته الحنونة رُقياً عن غِيبة التاريخ.. أوّل من موسق الأغنية السعودية.. حين جاءت «مقاديره» فتحًا للهوية وعهداً جديداً لصوت يحمل الأرض المتصحّرة لتخضرّ في مدن الضوء وجزر الأنهار.. ثم حين تيبّس التاريخ.. جاءنا ب»زمان الصمت» ليواصل مؤونة حمل صوت الأرض حيث لا يجيد ذلك غيره. «وطنه الحبيب» طريق لكائنات صباحية ظلت دائماً أكثر الكائنات حباً للحياة، وال(أغراب) اجتمعوا لكي يؤكدوا على أن كلامه من ذهب وصمته فجيعة يوشك بالسقوط فيسقط وحده إلى الأعلى نجمة في ذاكرة اللحظة لا تعنيها الليالي المشغولة بالصور المتكررة والهاربة إلى زمن لا يشبهه..! تواضعه السائل على جدران التاريخ.. يكشف عن فنان ظلَّت حياته قيثارة، ومماته أغنية.. لكن عبوره كان صوت الأرض دائماً حتى في «زمان الصمت»! فاصلة: من أين للأشجارِ ذاكرةٌ.. إذا حلّ الربيع على بساتينِ الحنينِ بآخر الذكرى ومن غيري رأى في رقصة الأغصان ما يغني عن الأدْنى.. يا أيّها الأبديّ نسيانًا.. ألا يكفيك أنّكَ ما استعطتَ من الرجوعِ مؤبّدَ المعنى.. قد لا تحالفكَ الطريقُ، وقد تمرُّ ببابها لغةً من الأسماء والأفعالِ والجمل المفيدةْ قد لا تحالفك القصيدةْ!