عندما كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يُعِدّ العُدّة لاسترداد مدينة الرياض، كان السعوديون في الوقت نفسه مثار جدل كبير في أوساط المثقفين في العالم العربي والإسلامي، وقد كانت محاولة المؤسِّس الأولى لاسترداد الرياض سنة (1318ه-1901م)، ثمّ مكّنه الله من استردادها في العام التالي (1319ه-1902م)، وتلك آونة كان فيها النقاش صاخباً وعلى أشدّه حول هذه الدولة وقادتها ورجالها وأفكارها. وإذا أخذنا مجلة المقتطف نموذجاً، وهي المجلة العربية المنوّعة التي أنشأها يعقوب صرّوف وفارس نمر عام 1876م، فإننا نجد أنّ من أبرز المقالات التي تدور حول هذا الشأن مقالة نُشرت في أغسطس عام 1900م، وكتبَها الأديب الشهير محمد كرد علي، وقد اعترف فيها بأنه أقبل على التواريخ الحديثة ينشد فيها ضالّته للتوسع في موضوع الاتجاهات الفكريّة لدى النجديّين، فلم يعثر على بيان يشفي غليله ويدرأ عنه الشبهة، ولم يجد كتابةً جرى فيها كاتبها على قدَم الصدق وتمحيص الحق وإسناد الأشياء إلى أدلّتها. ومع ذلك فقد بذل محمد كرد علي جهده، ورجع إلى طائفة من المؤلفات، منها: تاريخ الجبرتي، وتاريخ بغداد لعثمان بن سند البصري، والبدر الطالع للشوكاني، ونفح العود للبهكلي، وخلاصة تاريخ العرب للمستشرق سيديللو، وكتاب نديم الأديب لسعيد البغدادي، والرحلة المدنية للشهابي المدني. ويُلاحظ على نقول كرد تنوّعها، وأنها تقتبس من مؤيدي السعوديين ومناوئيهم، وتنقل عن المحايدين كذلك، لكن مما لفت نظري أن بعض مؤلفات خصوم السعوديين تلهج بالاعتراف لهم بالفضل في مجالات شتى، وتذمهم بما هو في الحقيقة مديحٌ عظيم لهم. فعلى سبيل المثال، ينقل كرد عن كتاب تاريخ بغداد المذكور ما نصه: «وقد رأيت لهم عقيدة منظومة يحفظها حتى رعاة غنمهم، ومنها «وما الدين إلا أن تُقام شعائرٌ/ وتأمن سُبْلٌ بيننا وشِعابُ». فكأنهم جعلوا تأمين الطرقات ركناً من أركان الدين. ويُفهم عقلاً من سياستهم أنه إذا فُقِد القاتل والسارق والناهب فأيّ سبب يمنع عموم الناس من الاشتغال بالزراعة والتجارة واقتناء المواشي في البادية المخصبة للتكسب من ألبانها وأصوافها وجلودها؟ وإذا اشتغلوا بالكسب الحلال فلا يَسرقون ولا ينهبون ولا يقتلون، فكأنّ المسألة شبيهة بالدوريّة، أي: متى وُجد الأمن ارتفع السارق والقاتل؛ لاشتغالهم بمعاشهم الحلال، ومتى اشتغلوا بالمعاش الحلال وُجد الأمان، ولكن هذا الدَّور منفكّ الجهة». أقول: هذا النقل من أحد خصوم السعوديين في ذلك الوقت إنما يدلّ على أن الأعداء أنفسهم اعترفوا للدولة السعودية منذ نشأتها بأنها أقامت شعائر الإسلام، ونَشرت الأمن والأمان، وعزّزت الاستقرار والرّخاء في البلاد.. فليت شِعري، إذا كان هذا ما اعترف لها به خصومها، فكيف يكون الشأن فيما يدبّجه عنها أنصارها. ويقول كرد بعدما يستعرض ما وجده في المصادر القليلة عن بلاد نجد: «هذا طرف مما عثرت عليه في تضاعيف كتبٍ مطبوعة ومخطوطة لمؤلفين متباينين في المشارب، متفرقين في المشارق والمغارب، أثبتّه على حاله، ولم أمسخ من لفظه ولا مآله، وسمعتُ كثيراً من مؤرخي الفرنجة وسيّاحهم ممّن تكلموا على هذا المذهب، ومنهم المُنْصِف والمُجْحِف، على أن المجحف منهم يَفْضُل بصدقه أمثال أحمد جودت وعبدالرحمن شرف وأيوب صبري وغيرَهم من المؤرخين الذين أطلقوا مباشرةً ألفاظ التكفير والتضليل على أبناء هذا المذهب ورموا الكلام على عواهنه، واتهموهم في أمانتهم؛ ولذلك اقتصرت على إيراد ما تقدّم وتجافيتُ عن ترجمة أقوالهم؛ لأنها أُمْلِيَتْ بلسان التمويه لا بلسان التاريخ». ثم يصف ما كتبه أحمد زيني دحلان عن عقيدة أهل نجد بأنه ممتلئ بالعبارات «المخزية» و»المخجلة»، وبيّن أن علماء نجد ردّوا عليه وذكروا أن الأحاديث التي ساقها في كتابه موضوعة، وطالبوه ببيان الكتب المأخوذة منها، وعلّق كرد على ذلك بقوله: «ويا ليت هذا المكّي بيّن مآخذه ليخلص من المطعن، فإن المقام مقام جدال». ويختتم كرد بإيراد الأقوال في عدد المعتنقين لعقيدة التوحيد في نجد في عام 1900م، ويقدّر عددهم بثلاثة ملايين نسمة، ويضيف: أما مسافة هذه البلاد فيقطعها الراكب على متون المطايا في عشرين يوماً عرضاً، وثلاثين يوماً طولاً. ثم استطرد عن انتشار الدعوة النجدية في الهند، خصوصاً في تلك الأيام، لافتاً إلى وجود تاريخ جليل في مجلدين كتبه حسين ابن غنّام، وعنه يقول: «فيه من الموادّ ما لم أتمكّن من الاطلاع عليه، وعساني أستجلب منه نسخة فأعود لإشباع القول عليهم؛ كشفاً للحقيقة، وإقناعاً للموافق المؤانس، أو المخالف الموالِس، والله وليّ التوفيق». *كاتب وصحافي مستقل