ديكنز كلمة تعادل إنجلترا القديمة، ما إن يلفظ الاسم الشهير حتى يتبادر إلى الذهن الشوارع المكسوة بالفحم وصبيان بالمئات يعملون في المصانع لقاء وعاء يخنة بارد، ديكنز تعني أعياد الميلاد وطبقات ثرية ترفل في الحرير في حين تتجرع أخرى الجوع وأمراض الفقر ومرارته، ديكنز يعني أوليفر تويست، توقعات عظمى، ديفيد كوبر فيلد، وتعني رواية الثورة والحب والتضحية الجميلة جدًا حكاية مدينتين. من العجيب كيف أننا حينما نسمع بالأشياء تتبدى في أذهاننا كيانات غامضة ضبابية لا كيانا محددا يُبصر لها، حتى إذا ما أخذتنا الجرأة إلى الخطوة الأولى بدأ غموضها يستبين شيئًا فشيئًا وتجلى لنا كتاب كينونتها صفحة إثر صفحة وما كان اسمًا مشهورًا نسمعه فلا يثير فينا ذرة من شعور بات معان جمة وأمسيات وذكريات ودموع وأنس وحدائق محبة! "قصة مدينتين" للرائع تشارلز ديكنز كانت أحد تلك الأمور، أذكر أول مرة رأيتها في مكتبة وأحجمت عن شرائها وسمعت بها عددًا لا يحصى من المرات بعدئذ، عرفت أن أحداثها تدور إبان الثورة الفرنسية وبهذا تشوقت أكثر للقياها، واليوم أخيرًا فعلت، غريبة هذه المضغة التي اسمها القلب عجيب كيف تحول موقفها بالكلية بعد أن تألف الشيء وتأنس له وترتاح بقربه بعد أن تعرفه ويعرفها وتمضي سويعات قليلة بجواره تجس شؤونه ويمس أوتارًا حساسة للغاية من الشعور فيها! أغلقت غلاف قصة مدينتين وأنا أبكي، هذه الرواية العظيمة التي ليست هي فقط قصة عاطفية وأحداث إيثار وتضحية ولكنها أيضًا تحليل نفسيّ لحقبة زمنية يرتاع العالم عند ذكرها اليوم، ليس لأن مستضعفي هذا العصر القديم ثاروا، لا فالثورة موجودة ما وجدت البشرية، يثور الناس في كل مكان وزمان ولكل الأسباب المختلفة، ولكن لأن الثورة الفرنسية أسالت أنهارًا من الدماء وقتها، والعجيب أن أول ما حصدت مقصلتها الرهيبة الدموية كانت رؤوس أبنائها مشعلة الثورة أنفسهم وبادئوها! وبعد أن كانت الثورة تنادي للحرية والعدالة صارت هي تجسيد خالص للظلم والقوة الغاشمة المدمرة وقطعت المقصلة مئات من الرؤوس البريئة التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في كل هذه الأحداث العجيبة. في الرواية يُجري ديكنز تحليلًا نفسيًا غاية في البراعة والحنكة ويكشف عن مدى مهارة هذا الفنان الكاتب ومدى استشفافه مكنونات الصدور واهتياجات القلب، هذا التحليل كان لهؤلاء الذين أشعلوا فتيل الثورة وكيف تحولوا من مظلومين لمنتقمين مستبدين ثم كيف انتهى الأمر برؤوسهم تتدحرج تحت المقصلة، تحكي القصة عن طبيب سجن لسنوات طوال ظلمًا حتى كاد السجن يذهب بعقله ثم يخرج ليرى النور ويبصر لأول مرة ابنته الشابة الفتية والتي بكت رحمة لأبيها الكهل المظلوم، لكنما الطبيب والابنة ليسا أبطال القصة بل وهذا الممتع والمثير في الرواية ليس هنالك بطل محدد وكأنما شاء ديكنز أن تتفرق البطولة بين شخصيات قصته أو كأنه أرادك أنت أيها القارئ أن تحدد البطولة وتختارها لمن تراه أجدر بها. تحكي أيضًا فصول الرواية عن شابين كلاهما هاما عشقًا بالفتاة ابنة الطبيب أحدهما قريبًا لكبار ظالمي فرنسا والذين أهرقوا أنهارًا من دماء أبنائها المقفرين ولم يكن أحدهم قط أبغض لهم من هذا الشاب الذي ساقه الحظ ليكون زوج الابن البارة، وعن شاب آخر شديد الحنكة والدهاء لكنما الخمر أضاعت نفسه ونراه دائمًا مغرقًا في الكآبة، وحينما تنشب الثورة الفرنسية أنيابها في الزوج الذي لا حول له ولا قوة وتقرر أن تجعله إحدى ولائم مقصلتها الفاضلة وتبكيه الابنة بحرقة يختار أن يحل محله مستغلًا المعمعة الدائرة في التغطية على الفروقات الشكلية بينهما. وتحمل آخر سطور في الرواية خطاب ما كتبه الشاب لكنه فكر به في لحظاته الأخيرة وهو يرى أديم السماء ممتدًا فوق رأس المقصلة، وأطلعنا عليه الكاتب خاتمًا روايته الرائعة بهذه العبارة " إن تضحيتي هذه هي أثمن ما فعلت وما كنت لأفعله قط في حياتي لو كان قُدر لها أن تكتمل. وإني أرى أحفاد الزوجين اللذين ذهبت حياتي لأجلهما يباركونني وينظرون يومًا إلى هذه الساحة التي فاضت فيها روحي بعد مئات السنين باذلين أنفس الدعوات لأجلي. الرواية حولت لفيلم لأكثر من ست مرات، تقريبًا منذ عُرفت السينما والتلفاز وأغرم بهما البشر، حيث قرر صناعهما أنها مادة ممتازة للعرض على الشاشة الكبيرة، وكيف لا، وكل خامات الفيلم الدرامي العظيم تنصهر في بوتقة حكاية مدينتين، الظلم والظلمات، الثلوج والشتاءات التي لا يعقبها صيف لوقت طويل جدًا، الوفاء والأمومة، الحب والحرب.. وكل النفوس التي تُبذل في سبيلهما، تلك التي ذكرت أسماءها وحظينا بالتعرف إليها وتلك التي أهرقت بالمئات دونما أن نعرف عن أصحابها شيئًا وبقيت في المجهول، لكنها وُجدت حتمًا وعاشت وتنفست وديكنز ببصيرته الروائية الفذة التي تتخطى حاجز الزمن وتنظر إلى ما وراء المجهول، ديكنز رآهم.. وأراهم لنا.