مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    دخول خدمات الرعاية الصحية الرقمية للأسواق العالمية انعقاد ناجح لمعرض خدمات تشيجيانغ (السعودية)    توظيف تقنية الذكاء الاصطناعي حاضرة في متغيرات المشهد العالمي    العطاء فطرة سعودية    مختصون يطالبون بتطبيق التجربة الصينية    "دربي" الهلال والشباب أقوى سابع جولات «روشن»    الأهلي والقادسية أقوى مواجهات ربع نهائي كأس الملك    المرافق العامة مرآة الوعي    التعليم بين الاستفادة والنمذجة    مركز التميّز للعيون.. نموذج وطني متكامل    روما يتشارك صدارة الدوري الإيطالي مع نابولي بالفوز على بارما    أمير جازان يطلع على سير العمل في المحاكم والدوائر العدلية    استعراض منهجية «الإخبارية» أمام فيصل بن بندر    «سلمان للإغاثة» يوزّع (1.548) سلة غذائية في محافظة ريف دمشق    برعاية وزير الثقافة.. "روائع الأوركسترا السعودية" تعود إلى الرياض    تدشين موقع الأمير تركي الفيصل.. منصة توثيق ومساحة تواصل    هيئة التراث: أطر قانونية وتعاون دولي لصون الإرث الإنساني    إنزال الناس منازلهم    أمير تبوك يستقبل مدير الأحوال المدنية    إسرائيل تعلن استئناف وقف النار وحماس تتهم واشنطن بالانحياز    لماذا الشيخ صالح الفوزان    دارفور تتحول إلى مركز نفوذ جديد وسط تصاعد الانقسامات في السودان    مواجهات قوية في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين    إلزام المبتعثين بتدريس الصينية    منافسات سباقات الحواجز تواصل تألقها في بطولة العالم للإطفاء والإنقاذ 2025    300 طالبٍ وطالبة موهوبين يشاركون في معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي في الدمام    أمير منطقة جازان يستقبل مواطنًا لتنازله عن قاتل والده لوجه الله تعالى    الفيدرالي الأمريكي يخفض سعر الفائدة للمرة الثانية    السعودية ترحب بإعلان سوريا اعترافها بجمهورية كوسوفا    هيئة الأمر بالمعروف بجازان تفعّل معرض "ولاء" التوعوي بمركز شرطة شمال جازان    «هيئة الأوقاف» تنظم ندوة فقهية لمناقشة تحديات العمل بشروط الواقفين    "GFEX 2025" تستعرض أحدث تقنيات الطب الشرعي    سوريا تعلن الاعتراف بكوسوفو بعد اجتماع ثلاثي في الرياض    "رهاني على شعبي" إجابة للشرع يتفاعل معها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان    استطلاع عالمي جديد: قلق مالي وتزايد الدعوات لسيادة الذكاء الاصطناعي    وزارة الصحة توقع 126 اتفاقية محلية وعالمية    العويران: نصف الرياضيين يعزفون عن الزواج.. "يبحثون عن الحرية بعيدًا عن المسؤوليات"    عطارد يزين الليلة سماء السعودية    روائع الأوركسترا السعودية تعود إلى الرياض في نوفمبر    الاحتلال يشن غارة جوية على الضفة الغربية    دعا لتشديد الضغط على موسكو.. زيلينسكي: أوكرانيا مستعدة للسلام دون تنازل عن أرض    وسط مخاوف من تصعيد إسرائيلي.. أورتاغوس تبحث جهود إزالة مخابئ سلاح حزب الله    الناصر: زيادة إنتاج الغاز والكيماويات    أكد أن الاتفاق مع باكستان امتداد لترسيخ العلاقات الأخوية.. مجلس الوزراء: مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار يدفع نحو التنمية والازدهار    التعلم وأزمة المعايير الجاهزة    الاتحاد يقصي النصر من كأس خادم الحرمين الشريفين    غضب من مقارنته بكونسيساو.. خيسوس: رحلة الهند سبب الخسارة    أطلقها نائب وزير البيئة لدعم الابتكار.. 10 آلاف مصدر علمي بمنصة «نبراس»    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضخماً من البنكرياس ويعيد بناء الوريد البابي    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يُجري الفحوصات الطبية للملاكمين المشاركين بنزالات موسم الرياض    قصيدة النثر بين الأمس واليوم    فترة الإنذار يالضمان الاجتماعي    فيصل المحمدي من بيت امتلأ بالصور إلى قلب يسكنه التصوير    ولادة توأم من بويضات متجمدة    العلماء يحذرون من الموز في العصائر    أمير منطقة تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء في المنطقة    كباشي: شكراً صحيفة «البلاد»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيلفي كورونا: ائتمان أم امتهان؟!
نشر في الرياض يوم 08 - 01 - 2021

من ووهان وسط الصين إلى بيرغامو شمال إيطاليا، ومن باريس إلى نيويورك؛ عاش العالم خلال السنة المنصرمة (2020) حالة كونية من الوباء وتعبئة شاملة لمواجهته، تعممت معها مشاعر الخوف والأمل والامتنان لدى كل إنسان، فأمام الانغلاق الاقتصادي، والانكماش الاجتماعي، والحد الإجباري من حركة السلع والأشخاص، شهد العالم تدفقا مستمرا في حركة الصور والمعلومات، واستهلاكا نَهِماً لصور بوجوه تعلوها الكمامات، وأجساد مدثّرة ببذل زرقاء وبيضاء، وأخبار متتالية يصعب الوثوق بصحتها، فضلا عن مزيد ارتباط بالتكنولوجيات الرقمية الجديدة التي أضحت نافذة الإنسان على العالم، ووسيلته لفك العزلة واستمرارية الحياة وتحقيق الاستمرارية البيداغوجية والمهنية، إن ما يواكب هذا الوضع من عدم الثقة، والرغبة الجامحة في فهم هذا الواقع "المجهول"، واستيعاب صدماته، مع هذا الارتباط المتواصل بالهواتف الذكية، والاتصال المستمر بشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كلها تشكل أجواء مثالية لاتساع قاعدة منتجي "السيلفي" ومستهلكيه، وتوسع دائرة المهووسين به والواقعين تحت سلطته، في زمن يستشري القلق والأمل، بين الحجر الصحي ورفعه، وبين الوباء وانحساره وتجدده؛ تظل الذات تسائل وجودها، وتسعى إلى فهم الاضطرابات التي تتقلب فيها، والتحولات التي تصبغ علاقاتها وتفاعلاتها.
فالسيلفي selfie صورة تُلْتقط ذاتيا باستخدام هاتف ذكي أو كاميرا رقمية، ثم تُنْشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو نوع من الأنشطة اليومية الأكثر بساطة وبداهة، والأشد إفصاحا وكشفا وفضحا، تتدفق منه حيثيات اجتماعية ونفسية جمّة، لا تلبث تستشري في ظروف الخوف والقلق وعدم الأمان، حيث تصير صورة الذات في أوضاعها النفسية والحسية أيقونة للعرض والتبادل والمشاركة، وهو في الأصل سلوك فردي مراهق، اكتسح بشكل جماعي كل الفئات العمرية، لما أوتي المراهقون من قدرة على التنبؤ، ولما يتميزون به من شفافية وعفوية. ومراقبة هذه الظاهرة تبدي أنها "ليست موضة عابرة بل هي نوع من الصور التي جاءت لتبقى وتمكث، كما جاءت قبلها صور جواز السفر، وصور حفلات الزواج والصور السياحية"، تتنامى مساحات الفراغ تحت الحَجْر، ويرتفع منسوب القلق في أتون العزلة، ويزداد استهلاك كل ما هو عاطفي مثير يغذي الأمان والاطمئنان أو يفاقم الخوف والهلع، فتتدفق سيلفيات من المستشفيات والمحاجر، ومع سيارات الإسعاف وأواني المطابخ. بعضها مرتب بعناية، يبلغ رسائل محددة وفعالة، وبعضها عفوي إلى درجة الفوضوية المثيرة للريبة والشفقة، "سيلفي" لمراقبة الالتزام بالحجر، وآخر لطلب الدعم والمساندة، وآخر لتقاسم آلام المرض وفرح التعافي... فهل نشهد تحكما للإنسان في صوره التي ظلت مائعة، متمنعة، ومنفلتة؟ أم نحن في الواقع نُمكّن لسلطة السيلفي في حياتنا صحّة ومرضا، أمنا وخوفاً؟ وبعد رفع الحجر الصحي، هل سيُعوّض دفء اللقاء صورا أجَّجَت القلق؟ أم سيظل الإنسان غارقا في ذاته، لاهثا وراء صوره، لا يستخلص العبر من اللحظات الصعبة التي تجثم على حاضره ومستقبله؟
مع ظهور الحالات الأولى لكوفيد 19 في أوروبا أصدرت الإدارات الطبية للأندية الرياضية الكبرى مذكرات تمنع لاعبيها من التقاط صور سيلفي مع المشجعين، لتفادي الاختلاط والوقاية من انتقال الداء، كما منعت السلطات في مجموعة من البلدان، لأسباب وقائية وأخلاقية، موظفي الصحة من التقاط صور سيلفي مع المرضى بكورونا، ووصل الأمر أن رُتِّبَت عقوبات قاسية في حق المخالفين، كما حدث في باكستان حين أقالت الحكومة ستة موظفين حكوميين لالتقاطهم سيلفي مع مريض بفيروس كورونا المستجد في حجره الصحي (le Parisien; 24 Mars 2020)، كما وَجَّهت السلطات الصحية في العديد من البلدان، في إطار إجراءات التباعد الاجتماعي، إلى اجتناب السيلفي الجماعي، لما يحمله من مخاطر انتقال العدوى، وكلها إجراءات مستحدثة أضيفت إلى إجراءات سابقة اتخذت في عدة مناطق في العالم قبل هذا الوباء، لمنع "صور السيلفي" حين تُشَكّل خطرا على حياة الأشخاص وأمنهم الروحي وخصوصياتهم.
مع "كورونا" صار السيلفي في صيغته الجماعية خطرا صحيا وأخلاقيا يتهدد الجماعة، مما خلق وضعا صعبا لدى أولئك المهووسين بتوثيق ومشاركة لحظات يرونها مهمة، مع نجومهم المفضلين، أو مع أصدقائهم المقربين، فقد كانت الصور مع الرياضيين والفنانين والمشاهير، المفتقدة الآن، مجالا تستمد منه الذات الكثير من الاهتمام، حين ترى صورتَها تُستقبل في المجتمعات الافتراضية بمزيد من الاحتفاء، وهي تحصد الإعجابات والتعليقات والمشاركات، كما أن "اللحظات العاطفية" بجانب المرضى بالفيروس والمتعافين منه، وحتى الموتى جراءه، فرصةٌ لاقتناص اللحظات الأكثر مردودية تفاعليا والأشد تأثيرا عاطفيا على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلا على أن السيلفي مع الأصدقاء كثيرا ما أعطى لصاحب الهاتف/مُقترِح السيلفي "الأَفضلية"؛ فهو الأوضح في الصدارة، المتمكن من تحسين صورته والعناية بها بمختلف الإعدادات المتوفرة طوعَ يديه، سيفقد لديهم السيلفي الكثير من جاذبيته وشغفه في وقت تشتد حاجتهم إليه، في مجتمع كله متصل يعاني من الفراغ والعزلة، وينتظر استهلاك صورة أو خبر لتجاوز صورة أو خبر صار من الماضي، في حركية "الاستهلاك" ثم "التخلص" المتواترة.
يتكرس، طوعا أو كرها، نوعٌ من الخوف من الصور الجماعية بعد أن أصبحت في لحظة وجيزة خطيرةً ومرعبةً، وحتى من تلك الصور المُلتقطة من قبل الغير. ونشهد مزيدا من الصور الفردية، المُلتقطة ذاتيا، ويتسع مدى الصور الطائشة على غير هدى ودون خطط واضحة، ويزداد تمركز الاهتمام السيكولوجي على الذات، بتعزيز الاستقلالية والاستغناء والاكتفاء، وتُستمد "الأفضلية" المفتقدة بافتقاد كل ما هو جماعي من اعتبارات عاطفية أو جسدية بحثا عن مزيد إعجاب ووافر مشاركة وتعليق، لا يجب أن نفاجأ بتدفق تلك السيلفيات الغريبة في غرف النوم والمطابخ، وفي محاريب الصلاة والتعبد... ومع الأيام الأولى لرفع الحجر الصحي، ومع التباعد الاجتماعي المستمر، تتجدد العلاقة بالأماكن والأشياء أكثر من العلاقة بالأصدقاء والأقارب. حيث يستغني الإنسان عن القلق بصورة، ويستغني الإنسانُ عن الإنسان بصورة مع شيء أو فضاء، ويستغني الإنسان عن الاستمتاع بوجوده الحقيقي بالانتشاء بمتعة سيلفي زائفة. فالصورُ تدمّر الصورَ، في حركة دائبة وسريعة نحو الزيف والفراغ واللا معنى، سيلفي جديد، فتعزيز وتثمين، ثم تجاهل وتوارٍ، وسيلفي آخر في سيرورة "وباء الصور" المستشري - أحيانا - على مواقع التواصل.
وفي الختام؛ فإن لحظة كورونا وما بعدها، وفترة الحجر وما بعد الخروج منه، هي مرحلة أخرى في الحياة المديدة للصور عموما، والسيلفي خصوصا، ترَسّخ الاقتناع بأن هذا الرافد الجديد الذي يصبّ في "نهر" الصور الغامر، سيظل يثير الكثير من مشاعر الضيق والامتهان، كما سيظل يبعث العديد من رسائل الاطمئنان والائتمان.، في انتظار مرحلة أخرى، وحدث آخر، نرجو أن يكون أهونَ وأخفّ.
* أستاذ تحليل الخطاب -
جامعة السلطان مولاي سليمان، المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.