هو من رجال العقيلات الذين لهم تاريخ وسيرة عريقة وعميقة، وكانت لهم حكايات وقصص ومواقف في الأمانة والشجاعة والصدق والوفاء، وهم سفراء لأوطانهم نجد في العراق وسورية وفلسطين ومصر، وكانوا يصدرون الخيل والإبل والأغنام والسمن والتمور، وكذا الأواني النحاسية، ويستوردون الملابس والأسلحة والقهوة والشاي والسكر، وكان المثل المعروف الذائع لدى أهالي نجد ما قبل عصر النفط: "الشام شامك إذا الدهر ضامك، والهند هندك إذا قل ما عندك، والريف ريفك إذا قلّت مصاريفك" - والريف العراق -. وشخصيتنا لهذا الأسبوع هو محمد العلي الشويرخ، والذي ركب مع العقيلات وهو شاب صغير وتعلم منهم فنون التجارة، بل تعلم منهم الصبر والجلد وقوة البأس والشكيمة والأنفة وعزة النفس ومكارم الأخلاق، فالعقيلات هم مدرسة من مدارس الحياة، وكان والده من العقيلات أيضاً وهو الشيخ علي الشويرخ - كما ذكر ذلك إبراهيم المعارك في كتابه (عقيلات بريدة)، فقد ذكر والده وذكر شخصيتنا بعد ذلك. ولد محمد العلي الشويرخ في العام 1320ه في بريدة من أسرة كريمة من الأسر المعروفة بكرم الخلق والاستقامة، وتعلَّم القرآن، وكما ذكرنا كان من رجال العقيلات الذين كانت لهم تجارة زاخرة ومزدهرة وكانت رافدا اقتصاديا قويا لأهالي القصيم، وبالذات بريدة وعنيزة، وكانت رحلاتهم شاقة ومتعبة، حيث يتركون الأهل والزوجات وكل القرابات، متوكلين على الله الحافظ الرازق الذي بيده مقادير كل شيء، ومتحدِّين المخاطر، فقد كان يتغرب عن بريدة الشهور تلو الشهور، والسفر قطعة من العذاب كما في الأثر. حادثة السفر وحدث لمحمد العلي الشويرخ - رحمه الله - حادثة إبان سفر العقيلات يرويها ابنه صالح قائلاً: إنه في إحدى رحلات عقيل في فلسطين العام 1943م أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين ضبط الجنود البريطانيون مع أحد الأشخاص المصاحبين للوالد مسدساً وهي من عادات رجال العقيلات؛ وذلك لحماية أنفسهم، ولكن الوالد حمل تبعة هذا السلاح فقال لهم: إن هذا السلاح لي واتركوا الراعي، فتركوا الراعي وأخذوا الوالد فسجن في مدينة طول كرم مع الأشغال الشاقة، فكان يخرج كل صباح مع المساجين يقوم بقطع الصخور ورصف شوارع المدينة في غروب الشمس ثم يغادرون إلى السجن، ولم يرق هذا العمل للوالد، وبعد أسبوعين قرر الهروب وأسرَّ هذا الأمر إلى أحد السجناء العرب وعرض عليه الصحبة وكان يكبر الوالد سناً، ولكن هذا الرجل امتنع، فطلب أن يكتم الأمر، وفي يوم من الأيام وعند انصراف السجناء قبيل الغروب بدأ الوالد يجمع المعاول والعدد المتناثرة في أماكن بعيدة - أدوات الشغل والعمل - وقريبة من الأشجار، ثم بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً والجند البريطانيون على خيل يراقبون السجناء، فلما غاب عن أعينهم انطلق هارباً ودخل بستان أحد العربان وطلب منه ملابس، ثم تزود بعنب طازج من تلك المزرعة، ثم واصل سيره إلى عمّان ووجد العقيلات ثم رجع معهم إلى الشام واستقر بها. فنون التجارة ومحمد العلي الشويرخ - رحمه الله - خُلِق أن يكون رجل أعمال وتاجراً وحاذقاً لأساليب التجارة، وكان ذا مهارة في العمل التجاري، وكما قلت أكسبته رحلات العقيلات دروس التجارة، منها تعلّم أسلوب التعامل التجاري ومسك الدفاتر «المحاسبة» وعمل القيود الحسابية. وقد بدأ عملية الاستيراد، واستورد بضائع من الشام إلى القصيم وكثّف رحلاته التجارية بعد انقطاع رحلات العقيلات، وبدأت رحلة النقل البري فيما بعد، وقد اشترى ثلاث شحنات من بقايا الجيش الفرنسي بسورية واتجه إلى القصيم، ولكن في الطريق قابل بعض أصدقائه من العقيلات وسألوه عن هذه الشاحنات فأخبرهم، فقالوا له: بل إن هذه الخردة قد زاد سعرها في الرياض فاتجه به إلى هناك وباعها بثمن جيّد. وبعد ما ربح رجل الأعمال محمد الشويرخ في بضاعته هذه قرر أن يتخذ الرياض العاصمة مكاناً لتجارته، واستأجر منزلاً لأسرته في المعيقلية بأربعين ريالا في العام، ومحلاً تجارياً في قيصرية بن كليب بعشرين ريالا، ولأن له ماضيا مع الشام وتجّارهم استغل هذه المعرفة بالتعامل التجاري، فصار يستورد البضائع الشامية إلى الرياض واشتهر بين تجارها بذلك، حيث كانت الرياض صغيرة جداً. عالم الصرافة ومحمد الشويرخ - رحمه الله - جاءته فكرة مشروع الصرافة في الرياض، وقد خطط لهذا المشروع الجدوى الاقتصادية، وحاجة العاصمة لمثل هذا المشروع التجاري، وبديهي أن يخطط ويعمل الجدوى وكان عملاً تجارياً ناجحاً، فهو يخبر حاجة السوق ولديه خبرة أزلية في صرف العملات كما كان بالشام وعمان والقدس، إضافةً إلى معلوماته الحسابية ومسك الدفاتر، وفتح هذا المحل وهو من أوائل الصيارفة في الرياض، إن لم يكن أولهم في هذا العمل التجاري الفريد والأول من نوعه، فقام بهذا العمل وحده من دون شراكة من أحد، وعلى عادته العصامية والاعتماد على الله - عز وجل - بدأ يزاول هذه الصيرفة بمهارة ونجاح وتفوق، ومن أهم صفات الرجل التاجر الأمانة والصدق والمصداقية في التعامل التجاري مع الناس، فكانت هذه الشمائل متوفرة في التاجر محمد الشويرخ، وحقق سمعة قوية تجارية في الرياض وخارج الرياض، وآتت هذه السمعة ثمارها، وجاء الناس يتعاملون معه ويودعون أموالهم عنده كأمانات وحسابات جارية، فكان بنكاً ومصرفاً في العاصمة، ونال ثقة المصارف الأخرى خارج الرياض وبالتحديد في مدينة جدة. مقاصة تجارية وفي إحدى المرات أرسل البنك الأهلي التجاري ويطلق عليه آنذاك مؤسسة الكعكي وسالم بن محفوظ شيكاً إلى بنك مصرف الشويرخ بالرياض، وقيمة هذا الشيك خمسة آلاف ريال، وهي رواتب موظفي البريد بالرياض، وذلك بتاريخ 1371ه، وصرف الشيك في مصرف الشويرخ، فكان المصرف الذي اعتمد عليه بهذه المقاصة التجارية حيث التبادل التجاري بين المصارف، وكان افتتاح هذا المصرف في أوائل الستينات الهجرية في عهد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، وهذا وقت مبكر لتجارة الصرافة، ومن ذلك التاريخ - أي الستينات الهجرية - وحتى وفاة الشويرخ وهو في هذا المصرف التجاري الرائد بمدينة الرياض في حي الصفاة مقابل قصر الحكم ثلاثة عقود من الزمن الماضي من القرن الماضي الهجري، وكان الشويرخ على طريقة التجار القدامى يصحب أولاده في المصرف ليتعلموا التجارة، ويذكر صالح الشويرخ هذه السنوات حيث يقول: كان والدي يهتم بالبيع والشراء ويشجع على التجارة ويؤكد على الاتجاه نحو التجارة، وكان يعطينا مبلغا من المال ونشتري أنا وشقيقي علي كرتون مناديل سعره 15 ريالا ونبيع الكرتون بربح 12 ريالا حتى وصل ربحنا 1000 ريال، ولما تحقق الربح قال: سلموا الربح لوالدتكم واستمروا في البيع والشراء، ولكنه مات - رحمه الله - ولم نستمر في العمل الشريف المفيد. شأن تطوعي ومن الجوانب النيِّرة في حياة رجل الأعمال محمد الشويرخ - رحمه الله - أن جعل مصرفه نقطة بينه وبين الناس، حيث كان الناس يتواصلون بالبريد، حيث لا هواتف منزلية منتشرة إلاّ في الدوائر الحكومية وبعض البيوت، وكلها عن طريق السنترال قبل تعميم الهاتف، فكان أهالي الرياض يأتون إليه برسائلهم لإرسالها خارج الرياض لا يبتغي بذلك إلاّ وجه الله تعالى، ثم مساعدة الناس، ثم يقوم - رحمه الله - كأنه موظف بريد يفرز هذه الرسائل ويجعلها في مظاريف كبيرة عليها شعار مصرف الشويرخ ويرسلها إلى معارفه وأصدقائه خارج المملكة مكتوب عليها اسم المرسل والمرسل إليه، ويذكر ابنه صالح: إننا نستلم البريد الآتي من خارج المملكة عبر البريد الجوي من مطار الرياض القديم، فكان المصرف يرسل إليه، وكانت خدمة كبيرة وشأن تطوعي وخيري يدل على خيرية وسماحة نفس الشيخ محمد الشويرخ وإلاّ فهو ليس ملزما بهذا الأمر، والبريد الرسمي موجود في الرياض، وباستطاعته أن يقول لمن يأتيه برسائل: اذهب إلى البريد ولا يلام على ذلك، لكن نبله وأخلاقه تأبى ذلك - عفا الله عنه -، وطبع الشهم راسخ لا يتغير ولا يتبدل مهما كانت الظروف والأحوال. علاقات كبيرة وكوَّن محمد الشويرخ - رحمه الله - شبكة كبيرة من العلاقات في مجتمع الرياض وخارجها من أمراء وعلماء وقضاة ووزراء وأعيان، وكان متنعماً بهذه الثروة التي منحه الله إياها، لا يبخل على نفسه ولا على أسرته، ويذكر ابنه صالح أنه اشترى قصرا كبيرا من أحد أفراد الأسرة المالكة بمئة وثمانين ألف ريال في الثمانينات الهجرية، وسأله أحد رجال الأعمال: كيف تدفع هذا المبلغ، قال: ما فائدة المال إذا لم يظهر أثره على الإنسان وذريته، وقد اشترى مزرعة كبيرة في دمشق يسافر إليها مع أولاده في كل صيف. وبعد هذه الحياة المليئة بالخبرات الحياتية والتجارية، ترك صدى تجاريا واسعا في المملكة، ورحل رجل الأعمال وصاحب أول مصرف في الرياض، وقد فاضت روحه في شهر رمضان في التاسع منه في العام 1391ه، وصُلي عليه في الجامع الكبير، جامع الإمام تركي ودفن في مقبرة العود. أشكر الأخ صالح الشويرخ على إمدادي وتزويدي بمعلومات عن والده، حيث أهداني الكتاب الذي أعده عن سيرة والده، وهذا من البر بعد موت الوالد. وجدير بالذكر أن رجل الأعمال محمد الشويرخ ساهم بمبلغ مالي في إنشاء وتأسيس جامعة الملك عبدالعزيز بجدة مع المتبرعين، وكذلك ساهم في إنشاء الغرفة التجارية بالرياض في العام 1381ه. قصر الشويرخ في حي الظهيرة بالرياض في العام 1386ه حي الصفاة بالديرة في العام 1401ه حيث يقع مصرف الشويرخ محمد الشويرخ في مزرعته بدمشق في العام 1390ه مصرف الشويرخ في العام 1402ه صالح بن محمد الشويرخ كاتب سيرة والده