لا شيء أشد على الإنسان من فراق من يحب مجبراً لأي سبب من الأسباب، ومن أهم ما يجعل المرء يفكر طويلاً قبل أن يقدم على قرار التغرب لأي غاية هو مصارعة النفس من أجل القبول بالسفر الطويل، الذي يعني البُعد عن الأوطان، وبالتالي عن الأهل والأحبة، فالغربة تعني مرارة الغياب الطويل للمر،ء وعيشه وحيداً عن أهله ومجتمعه، حتى إن كان سيعيش في مكان مكتظ بالسكان، وتحيط به الحضارة وجمال المكان، فكل ذلك لا يغني عن وجود الأهل والأحباب من حوله، لذلك كان المغتربون في أي مكان بالعالم يحاولون بشتى الطرق التواصل مع ذويهم في غربتهم، وفيما مضى كانت طرق التواصل تتم عن طريق الرسائل البريدية أو كتابة رسالة خطية، ومن ثم بعثها مع أحد المغتربين معه، الذي سيعود من غربته إلى بلده الذي يعيش فيه أهله؛ حيث يقوم بإيصال الرسالة إلى أهله، التي يسطر فيها حاله وأشواقه وحنينه إلى الأهل والوطن، ومع مرور الوقت، وبدء الخدمة الهاتفية، خفتت لدى كثيرين مرارة الغربة؛ حيث باتوا يستطيعون سماع صوت من يحبون، الذين يفصل بينهم مئات بل آلاف الكيلومترات. وفي عصر التطور الذي نعيشه، تبدلت طرق التواصل المحصورة فيما مضى في البرقيات التي تحمل كلمات قصيرة لا تفي بشرح الاشتياق أو بالرسائل البريدية التي تحتاج إلى أيام لوصولها إن لم تضل طريقها، أو في المكالمات الهاتفية عن طريق الهاتف الثابت، الذي غالباً ما يكون صاحبه المتلقي للمكالمة غائباً عن المنزل أو نائماً أو منشغلاً، فقد جاءت التقنية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي سبقها الهاتف الجوال، الذي شكل ثورة حقيقية في التواصل بين المغترب وذويه، وبعد أن اخترعت التطبيقات الحديثة، التي تتيح المكالمة وبث الصورة في الوقت نفسه بحيث يتحدث المغترب وجهاً لوجه مع من يريد وكأنه يجلس بالقرب منه، باتت الغربة أخف وطأة على الجميع، وبات المغترب حاضراً بصورته غائباً بجسده فقط، فهو يحضر المناسبات كمناسبات الزواج أو الاجتماعات الأسرية أو مراسم العزاء، ويكون على اطلاع بجميع أخبار من يرغب باليوم والساعة عن طريق هذه التطبيقات الذكية التي قربت كل بعيد. معاناة الغُربة وكان الغرض من الغربة فيما مضى إجبارياً كالحصول على لقمة العيش، أو طلب العلاج، أو الدراسة، أو مزاولة التجارة، وكانت وسائل المواصلات بدائية، فقد تستغرق الساعات الطوال أو الأيام حسب وسيلة النقل التي تتناسب والمقدرة المالية لكل شخص، وما إن يتوارى المغترب عن الأنظار حتى تبدأ عملية الاشتياق، التي تزيد مع طول الغربة، ولا تخففها إلاّ معرفة أخبار المغترب من قبل ذويه ومحبيه، ومعرفته هو الآخر أخبارهم. وكثير من الشعراء أبدع في تصوير معاناة الغربة؛ لما وجد من الوحدة ولوعة الفراق المقرونة بالاشتياق إلى من تهواه نفسه، ومن ذلك قول أحد الشعراء: بِكَ يآ زمانَ اللّهو أشكو غُربتي إن كانت الشّكوى تُداوي ُمهجتي قَلبي تُساوِره الهمومُ توجعاً ويزيد هَمي إن خَلوتُ بِظلمتي يا قلبُ إني قد أتيتكَ نَاصحاً فَاربأ بنفسك أن تقودكَ مِحنتي إن الغريبَ سقته أيّامُ الأسى كأس المرارة في سنين الغربةِ وكانت وسيلة التواصل المتاحة منذ نصف قرن من الزمان هي المراسلة عن طريق بعث الرسائل بالبريد، التي كانت تستغرق أياماً وربما أسابيع حسب قرب البلاد وتقدمها، وقد يكون محظوظاً من كان يسكن معه أحد أقاربه أو معارفه في الغربة، وينوي العودة إلى بلاده في إجازة أو في ذهاب بلا رجعة، فيقوم بتحميله رسائل الاشتياق إلى أهله ومحبيه، وقد يرسل معها بعض الهدايا والنقود خاصةً للوالدين أو الزوجة والأولاد إن كان مغترباً من أجل الحصول على المال، وقد تطول الغربة بالبعض، وتمر السنون، وتنقطع أخباره، فيعود إلى بلده فيجد أن أعز الناس قد فارق الحياة كوالديه أو أحد إخوته أو أصدقائه، وقد تمتد الغربة بالبعض الآخر، فتنقطع أخباره ويتوفى هناك، وقد تزوج وخلّف بنين وبنات، ومن ثم يتم التواصل لعودة الأبناء إلى وطن والدهم، فيستقروا فيه مع أهلهم وذويهم. رسائل وتسجيلات وكانت الطريقة الوحيدة للتواصل بين المغترب ومحبيه من أهله وأصدقائه - كما أسلفنا - هو بعث الرسائل البريدية التي تكتب بخط اليد، ومن ثم توضع في ظرف خاص، وتكتب عليه معلومات المرسل والمرسل إليه، ويتطلب وصولها أياماً وأسابيع حسب بُعد المكان المرسل إليه، وكان ظرف الرسالة يوشح بالطوابع البريدية، ويكتب اسم المرسل على الطرف اليمين والمرسل إليه على اليسار، كما كان هناك نوعان من الإرساليات "مستعجل"؛ وهي لمن أراد وصولها بسرعة؛ حيث تزيد قيمة الرسوم، و"عادي" ويختارها من لم يكن في عجلة من أمره وتكون برسوم أقل، وهناك نوع من الرسائل يختاره من كان حريصاً كل الحرص على أن تصل رسالته ولا تضل طريقها وهو "المسجل"، بحيث تؤخذ بيانات المرسل بدقة وكذلك المرسل إليه، وبحيث يضمن البريد أن تصل الرسالة إلى صاحبها، وفي حال عدم وصولها فإنها ترجع إلى من أرسلها، وعادةً ما يتم وضع أوراق مهمة كالأوراق الثبوتية، أو أوراق نقدية في الظرف داخل الخطاب المرسل، كما كان البعض يلجأ إلى إرسال أشرطة "كاسيت" يكون قد سجل عليها كلاما إلى من يرغب من أهله وأصدقائه، وتتنوع سعة بعض الأشرطة من ساعة إلى ساعة ونصف، بحيث يحكي المغترب كل ما يريد قوله، ويبوح بما لديه إلى من يرسله إليه، خاصةً إلى الوالدين والزوجة، وقد يرسل شريط "الكاسيت" عبر البريد أو برفقة أحد الثقاة ممن يقيم مع المغترب ممن يعود إلى البلد قبله. كبائن الهاتف وبعد أن انتشرت الخدمة الهاتفية، باتت الغُربة أقل وطأة على المغترب، حيث صار بوسعه أن يتحدث مباشرةً مع من يريد عبر سماع صوته، وأن يبث الهموم والآهات والمشاعر في كلمات قليلة حسب قيمة المكالمة، التي تحتسب بالدقيقة أو جزء منها، ومن أجل ذلك انتشرت "كبائن" المكالمات للهاتف الثابت في الأسواق والطرقات ومحطات القطار والمطارات وغيرها من الأماكن التي يرتادها الناس يومياً وبكثافة عالية، وكانت المكالمات تجرى بوضع القطع المعدنية من الريال وبعض أجزائه في المكان المخصص له في أعلى "الكبينة"، وبعد أن يتلقى المتصل صوتا من طلب رقمه تبدأ الكبينة بابتلاع القطع النقدية حتى تنفد، ومن ثم ينقطع الخط وتنتهي المكالمة، وبعد أن تطورت الاتصالات تم إنشاء كبائن اتصال حديثة، يقوم فيها من يريد الاتصال بالحضور إلى الكبينة التي باتت منظمة، حيث يتوجه إلى غرفة خاصة فيرفع السماعة ويتكلم مع من يريد، وبعد انتهاء المكالمة يتجه إلى الاستقبال الذي يكون قد أعد فاتورة المبلغ المطلوب، وبقي الوضع مستمراً على هذا الحال حتى بدأت خدمة الهاتف المتنقل "الجوال"، فبات الاتصال مع الأهل والأحبة في الغربة ميسراً وفي أي وقت وحين، وانتهى وقت التعامل مع هاتف العملة، الذي خرج من الخدمة بلا عودة في كثير من دول العالم. تطبيقات التواصل عصور كثيرة مضت على تطور التواصل البشري، بداية من الحمام الزاجل، والتلغراف، والهاتف، وصولاً إلى ثورة الاتصالات والإنترنت، فاليوم أصبح كثيرون يستغنون عن مكالمات الهاتف خاصةً المغتربين، ويستبدلون بها رسائل تطبيقات الجوال، أو المكالمات عبر الإنترنت، التي توفر مبالغ كبيرة مقارنة بالاتصال عبر شبكة المحمول، وتحديداً المكالمات الدولية، التي كانت تكلف قديماً مبالغ مالية كبيرة، أما اليوم فقد أصبحت شبه مجانية، ومن أشهر تلك التطبيقات تطبيق "الواتساب"؛ وهو تطبيق تراسل فوري يسمح بالاتصال مع الأصدقاء والأسرة في كل مكان وزمان مجانا ومن دون أي تكلفة، ويسمح كذلك بإرسال الصور، والرسائل الصوتية، والفيديو والوسائط، ومن التطبيقات الحديثة أيضاً تطبيق "فايبر"، وهو يعمل على الهواتف الذكية متعددة المنصات، ويتيح للمستخدمين المراسلة الفورية وإجراء مكالمات هاتفية مجانية وإرسال رسائل نصية وصور وفيديو وصوت مجانا إلى أي شخص لديه هذا البرنامج، ومن التطبيقات أيضاً "فيس بوك ماسنجر"، وهو تطبيق دردشة يُتيح للمستخدم التحدث مع الأصدقاء، وإنشاء مجموعات وإرسال رموز تعبيرية، وإرسال صور، وأخيراً فإن تطبيق "Yee Call" يوفر مكالمات مجانية للمستخدمين في جميع أنحاء العالم، وتبادل أطراف الحديث مجاناً مع الأصدقاء والأسرة في أي وقت، ومع انتشار التطبيقات الذكية التي ربطت بين المغترب وذويه ومحبيه، فإن مفهوم الغُربة قد خفتت وطأته على المغترب، وبات وكأنه وسط أهله، وإن كان بعيداً عنهم بمئات وآلاف الكيلومترات، بل صار يعيش الحدث معهم لحظة بلحظة، ولا يخفى عليه من أخبارهم شيء، بل ربما يعلم عن أخبار بلدته وأهله ما لا يعلمه من كان مقيماً بينهم، وبالتالي صارت غربة اليوم غربة غياب الجسد فقط، فهو حاضر معهم بفضل هذه التقنية لحظة بلحظة. ضعف التواصل قديماً زاد من مرارة الغربة رسائل البريد وسيلة التواصل الوحيدة قبل الهاتف الخدمة الهاتفية خففت معاناة الأسر في التواصل مع أبنائهم المغتربين أجهزة الجوال قلّلت من الاعتماد على كبائن الهاتف