لا يقاس تقدم الشعوب والدول، بالعدد أو المساحات الجغرافية، ولا حتى بما تحتويه البلاد من ثروات، أو كنوز مادية، إنما يقاس تقدم الشعوب والدول، من خلال ما تفعله بأيدي أبنائها، وقدرتهم على العطاء والنهوض بالبناء الحضاري وعلى تغيير الواقع وتنميته، وتحويله إلى الأفضل دائماً، فضلاً عن مراكمة الثروات التي تعدّ وسيلة ضروريّة لتنفيذ المشروعات التّنموية، وإظهار المنجزات على أرض الواقع. لما تشهده الإمارات من تقدم وازدهار، ما يجب التذكير به هنا، هو أن أي مسيرة بناء حضارية، مهما كان شأنها لابد من أن يسبقها إعداد أخلاقي ووطني وثقافي مميز، يضع المصلحة الوطنية في مقدمة الاهتمامات، لأن أي ظاهرة فساد في المجتمع، من شأنها إن لم تعالج أن تنتشر في جميع أنحاء المجتمع، كانتشار الخلايا السرطانية في الجسد. ومن هنا يبدو من نافلة القول أن أي عملية بناء حضاري، يجب أن يسبقها إعداد الأجيال التي سيناط بها هذا البناء وتعزيزه وهو أمر يميز في الواقع التجارب الناجحة عبر التاريخ، والتي استطاع أصحابها تحقيق إنجازات حضارية هامة، ومؤثرة في بناء مستقبل الشعوب. هذه المقدمة في الحقيقة، قادتنا إليها، التجربة الحضارية الإماراتية الحديثة، التي هي محط اعتزاز وافتخار ليس أبناء هذا البلد العربي فحسب، وإنما افتخار كل العرب، الذين يشهدون في الواقع تجربة فريدة من نوعها، حيث استطاعت هذه الدولة الفتية، بفضل رؤية قيادتها الحكيمة، منذ اللحظات الأولى لقيامها، أن تؤسس لمشروع نهضوي ناجح، استمد قوته من فكر ومواقف وعمل وإنجازات الراحل الكبير المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي تحتفي بذكرى رحيله دولة الإمارات هذه الأيام، ذلك القائد العروبي فكراً وعملاً، المتشرب بالأخلاق العربية والإسلامية السمحة، وابن هذه الأرض العامرة، العارف بتاريخها، والقادم من ثقافتها. فخلال حيز زمني قصير تمكنت دولة الإمارات من أن تحول الإمارات المتفرقة، الغارقة في الفقر التي تعاني من معاناة شظف العيش إلى دولة عصرية متماسكة، بفضل الله ثم بحكمة وحنكة باني نهضتها (زايد الخير) وقد نمت فيها روح المواطنة الأصيلة وترعرعت في ربوعها قيم العروبة والحضارة والمبادئ الوطنية والقومية. وإذا بالصحراء القاحلة، التي يجهد أهلها للعيش فيها بظروف جد قاسية، تتحول خلال أقل من نصف قرن من الزمن، إلى أيقونة حقيقية للحضارة، فانتقلت من مرحلة الكتاتيب إلى مرحلة استضافة أكبر جامعات العالم كالسوربون، والمعاهد ومراكز الأبحاث العلمية العالمية والوطنية الشهيرة، لتنشئ جيلاً معطاءً قادراً على مواجهة المستقبل، على أسس علمية حديثة ومتينة. ففي هذه التجربة، يمكن الحديث عن تغيير حضاري جوهري، يقوم على أسس نظريّة وعمليّة لا نبالغ إن قلنا إنها تمثل حالة استثنائية، أسسها ذلك الرجل الكبير. مبرهنة هذه الدولة الفتية بشكل لا يقبل الجدل أن التّغيير الحضاري ليس مجرّد أفكار وشعارات براقة بل هي عملية متناسقة ومتكاملة في جوهرها تغيير الإنسان، الذي يعتبر في أي عملية حضارية رأس المال الأول والأهم لأي مشروع حضاري كبير. ولذلك يمكننا قراءة المثال الإماراتي، ضمن التوجهات الكبرى والتحديات الجسيمة التي تدخلها الشعوب التي تريد فعلاً أن تشق طريقها نحو المستقبل بنجاح. فمن ينظر إلى الإمارات اليوم ويقارن بين اليوم والأمس يدرك من غير عناء، أنه أمام تجربة حضارية حقيقية، بكل ما في الكلمة من معنى حيث هناك بنية تحتية قل مثيلها في المنطقة واقتصاد ناجح وقوي، يتطور رغم كل ما يحيط بالمنطقة من أزمات ناهيك عن القوانين الاقتصادية الحضارية، التي تندرج ضمن منظومة حضارية عامة، تشمل مختلف جوانب المجتمع. أما سر هذا النجاح الباهر ، فإنه يكمن في استثمار القدرات المتوفّرة من أجل العمل والبناء والإنتاج، في إطار استراتيجيات أثبتت فعاليتها وقدرتها على تجاوز الصعاب دائما لدرجة أن الدولة خرجت من الرهان على الثروة النفطية، كمصدر وحيد للاقتصاد إلى تنويع الأنشطة الاقتصادية ليصبح النفط مجرّد عنصر من عناصر الثروة الوطنية. نعم إنها فلسفة الشيخ زايد بن سلطان آل النهيان مؤسس دولة الإمارات وباني نهضتها وأصبح نهجها وديدنها بالنهوض والتطور، وسر نهضتها الحضارية والرائعة، التي باتت درساً لكل الشعوب في العالم. Your browser does not support the video tag.