عندما كنا صغاراً، كنا دوماً نسمع نشيداً يبث من التلفاز والإذاعة أذكر من كلماته (من 600 مليون، من كل عشيرة ولون)، ولأن هذا الرقم كان هائلاً وغامضاً بالنسبة لعقولنا آنذاك فكنا نظن أننا جزء من قوة هائلة كبيرة غامضة الملامح، نرتبط معها وجدانياً بصورة لا عقلانية. بالطبع هذه الأغنية هي جزء من الكورال الهائل الذي تسلل إلى مفاصل المكان وقتها، وكان يسعى لطمس ملامح الوطن ويربطه بخرائط شاسعة، فلم نكن ننشد لسكان المملكة العربية السعودية، بل تتلاشى الحدود وتنداح ليأتي كتاب الجغرافيا في المدرسة ويخبرنا أن جزيرة إندونيسية مغمورة هي جزء من تضاريس الوطن، ولم يكن الأمر يقتصر على الخرائط بل كان يؤصل له شرعياً عبر المناهج وكتب التاريخ المدرسية. والتي كانت ترتفع ستاراً سميكاً منسوجاً من أحلام وأخيلة بيننا وبين وطننا، وتنبت العلاقة مع مشروع التمدين ومطالع النهضة المحلية، وتعسكر عقول الشباب لمعركة مرتقبة في مكان ما فوق تلك الخرائط الملغمة، ومن ثم بعد عقود كيف ندهش من سهولة استدراج هؤلاء الشباب لمواقع الحروب والفتن؟!! اليوم لنعيد تهجي الوطن، نتذوق طعم عشقه الذي يقارب طعم در الأمهات وعذوق الصيف، بخرائط واضحة الحدود دقيقة الملامح، وشعب يبلغ تعداده 30 مليوناً، وليس 600 مليون (أصبحوا الآن مليار ونصف) تجمعنا وإياهم العقيدة والإنسانية فقط !! وإلا فلهم أوطانهم وشعوبهم وهمومهم ومنظروهم وقادتهم وأغانيهم الوطنية، التي لا تعنينا إلا بمقدار المصالح المشتركة معهم. اليوم وطننا هو قرناس بحلة جديدة زاهية وأجنحة مجلوة، يحلق باتجاه رؤية تعيد ترتيب الأولويات وتنظيم المسار. لنعيد اكتشاف وطننا أفقياً وعمودياً، حيث يمتد تاريخه عميقاً إلى ما قبل التاريخ، عبر حضارات سادت وشمخت وشيدت ممالك دروب الحرير واللبان. ويكمن تحت أرضه جرار كنوز العرب العاربة والمستعربة، أما أفقه فيتجاور فسيفساء الثروات الإنسانية، الجنوب حيث الجبال المرصعة باليشب وإرادة الرجال، والحجاز بوصلة العالم ومهوى الأفئدة، ونجد المجد وأهازيج النخيل، والشمال مدين ودادان وكتاب التاريخ يستدير حول قدر الطائي، والشرقية حكاية الرمال التي فزت وشهقت فأنبتت الممالك الفاخرة ذات القباب الذهبية الملتمعة. ما يعنينا في يومنا الوطني هم 30 مليوناً، سيزرعون جزيرة العرب حقولاً وحضارةً ومعارف، يباهون ويبزون بها الأمم، وعدا ذلك ستتوقف آلتنا الحاسبة. هذا وطننا وهذا نحن... وما عداه يدخل في مجال الطارئ والهامشي والمؤجل.