على أعقاب مقالي الثالث عن لقاء سمو ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان سلمه الله تعالى والذي خصصته لمحاربة الفساد، ذلكم الإجراء الذي نصَّت عليه النصوص الشرعية، وأكَّدت عليه الأنظمة المرعية، واتفق العقلاء على أن عقباه محمودة، ومنافعه جمَّة غير محدودة، وقد أعقبت المقال ردود أفعال حسنة تؤيد محتواه، وترى جدواه، وتشجع أهدافه، وَتَشُقُّ عن لؤلؤهِ أصدافَه، مستحضرة كون الفساد محرماً شرعاً، ممنوعاً نظاماً، ممجوجاً عقلاً، مبغوضاً طبعاً، لكن على النقيض من تلك الردود المنصفة، برزت بعض الردود السيئة المسرفة، ردَّدَتها خفافيش تويتر التي لا يصلح لرئتها هواء الإصلاح، ولا تقدر على استنشاق عِطْرِهِ الفوَّاح، بل نَشَأَتْ على الفساد ودَرِبَتْ به، وما زالت تُصِرُّ عليه بكل إصرار وعناد، فلا تستطيع مفارقته، ولا تستسيغ مزايلته، فكل من نادى بالإصلاح، صاح صائح المفسدين وناح، ولسان مقاله دونكم هذا المصلح إياكم أن يَسْلَمَ من هجماتكم، أو أن يكون بمأمنٍ من مكركم وكيدكم، ألصقوا به التهم الكاذبة، وارتجلوا له الأوصاف الآفكة، واجعلوا ليله كنهاره حتى يتوقف عن إنكاره، ويتخلَّى عن ثباته على الحق وإصراره. والعجيب الغريب أنهم يقرؤون كلاماً عاماً، ثم يُفَصِّلونه على قَدِّهِمْ، ويُسْقِطونه على بيئتهم، وعلى من حولهم، فهم بهذا يُحقِّقُون على أنفسهم المثل العربي السائر: (كاد المريب أن يقول خذوني)، وقول الشاعر: كأن فجاجَ الأرضِ وهي عريضةٌ على الخائف المكروب كِفَّةُ حابل فتراهم لهذا التوجس يحشدون الحسابات الوهمية، ويُجيِّشون المعرِّفات المجهولة، لأشخاص تستَّروا ببراقع الأسماء المستعارة، ثم لا تسأل عن الفجور في الخصومة، والبغي والظلم في الحكومة، تجاه من يعتقدون أنه كشف سترهم، وفضح سرَّهم، وبيَّن حقيقتهم، فحاله وحالهم كما في المثل: (رمتني بدائها وانسلَّت). والأعجب والأغرب أنهم يخوضون محاولة يائسة لتكميم الأفواه حتى لا تتحدث عن الفساد، إما صراحة، أو عبر تلك الحسابات الوهمية، والمعرِّفات المجهولة، ثم يُمارسون ما يُثْبِتُ ذلك الفساد، ويُبرهن عليه، ويرتكبون أسلوباً مكشوفاً يُعَدُّ نوعاً من أنواع الفساد مُمَكِّنِين الرامي من سواء الثغرة، وعلى نفسها جَنَتْ براقش. والسؤال المهم: ما الذي يضيرهم أن يَدْعُوَ داعٍ إلى الإصلاح، وأن يُنْكِرَ مُنْكِرٌ الفساد على طريقة ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، وهو منهجٌ نبوي؟ فإن كانوا متورطين فيه فَلَمْ يكن مجرد الشغب منهم ليصرف الأمر عن مساره، ولا ليغير الحقيقة الثابتة، وهذا الاحتمال - لو ثبت - فالملومُ هو المقصِّرُ المورِّط لنفسه، وهو الجالب لمتاعبه، ولا تَبِعَةَ على من تحدَّث عن الفساد وأنكره، وإن كانوا بريئين أهل نزاهة، فليس مجرَّدُ مقالٍ كفيلاً بإدانتهم، ولا مشمولين بمضمونه أصلاً، فَلِمَ ينزعجون منه ابتداء؟ مع أن تصريح سمو ولي ولي العهد وزير الدفاع سلمه الله في هذا الشأن (والذي تجاهله، وأهمله بعضهم) أكَّدَ على محاسبة أي شخص دخل في قضية فساد، وتتوافر الأدلة الكافية لمحاسبته، فَلِمَ الخوف والجزع والحالة هذه؟ ثم إنهم على احتمال نزاهتهم، وقطعيَّة براءتهم ليس من حقِّهم كَبْتُ الآخرين، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الإصلاح، ومكافحة الفساد، فلا تستلزم نزاهةُ شخص معين أن تكون قضايا الفساد معدومة، ولا أن يكون الحديث عنها تَعَدِّياً وعبثاً.