اقتصر عقاب الأجيال الماضية على نوعين.. إما الضرب أو الصراخ وهو لا يختص بالبيت وبالأب والأم فقط بل ينسحب على المدرسة عندما كان المدير يضرب الطالب ويهينه أمام الطابور.. ويأتي المعلم ليضربه أمام زملائه في الفصل.. ضرب مهين ومبرح وقد يكمل المراقب في الممرات.. وإن تعذر الضرب ونزلت الرحمة على القلوب فالصراخ بديل للعقاب.. صراخ تنهال فيه المفردات البذيئة على رأسه بدون توقف ودون رد منه في المدرسة وفي المنزل.. الذي قد تقول له الأم كما يقول أحد أقاربي.. "إنه يوم سعدك لو اكتفى والدك بالصراخ عليك وشتمك بأقذع الألفاظ".. العجيب أن تلك الأجيال تتذكر هذه الممارسات العنيفة سواء بدنياً أو نفسياً وتضحك وتعتبرها سيرة ذاتية.. لم تتأثر نفسياً ولم تغضب ولم ترم فشلها على المعلم العنيف والمدير الجبار والأب القاسي.. بعد أن أصبح المراهق هو الحيطة المايلة التي يضربها الجميع "بقى كله يضرب" كما يقول عادل إمام في مسرحية (شاهد ماشفش حاجة). الفكرة أن كل من حول المضروب لايرون الضارب ولا يتوقفون عنده لأنهم يتعرضون لنفس الموقف ولكن في أوقات مختلفة، وربما لنفس الأسباب! الجيل الذي تشبع ضرباً من المدرس العربي وتشبّع صراخاً وشتائم وضربا بالوكالة وغاص في خصوصية عبارة الأهل الشهيرة "لكم اللحم ولنا العظم" على اعتبار ان التربية ضرب وتعنيف وصراخ، و "ياويل الطالب لو اشتكى على أهله بأنه ضُرب".. سيقال له إنك المخطئ وأنه لايمكن أن يضربك بدون سبب. من الغرائب ما تحكيه إحدى المعارف التي لم تكمل تعليمها واكتفت بالمرحلة المتوسطة، تقول: "كنت مجتهدة وأحب المدرسة والدراسة ولكن أخاف من الضرب والزعيق والإهانة وكانت معلماتنا يضربن بعنف ولا أجد من أشتكي عليه والأسوأ أنه في إحدى المرات لم أحلّ الواجب فوجدت المعلمة تمسك بي من كتفي وتخرجني بقوة من الفصل وتطلب مني أن أدير ظهري وعندما أدرته دبست في ظهري ورقة من الدفتر مكتوب عليها كسلانة وطلبت من زميلة لي ان تدور بي على فصول السنة السادسة الابتدائية، وبعدها أوقفتني مع أخريات خارج الصف حتى انتهت حصتها، والغريب أنه لم ينقذني أحد ولم يدافع عني أحد ولم يستغرب احد بدليل أنني عندما ذهبت للفسحة لم يكن أمري يهم احدا بل إن بعض زميلاتي ضحكن علي عندما شاهدوني غاضبة واعتبرن ان الموضوع تافه وقد مرّ عليهن كلهن ونسين ما حصل".. تضيف: "لا أدري كرهت التعليم من تلك اللحظة وتزوجت مبكراً وتوقفت عنه ولم انس ما تعرضت له من عنف نفسي ولم استطع ان اسامح تلك المعلمة".. السؤال هل شذت هذه الفتاة عن قاعدة ذلك الجيل الذي كان يُضرب ولا يغضب أو يتآثر بل البعض يضحك على ماحصل له وكأنه خارج الإحساس؟ هذا الأمر تغير في الأجيال اللاحقة وتوقف الضرب في المدارس والتعنيف بشكل كبير وحتى الأسر استوعبت مفهوم التربية نتيجة للتعليم وأشياء أخرى..! لكن هل الضرب للأطفال والمراهقين أكثر قسوة من الصراخ؟ دراسة أميركية ذكرت أن الصراخ على المراهقين يؤثر بشكل سلبي فيهم مثل ضربهم وأن التعنيف الكلامي واستخدام الألفاظ القاسية يساهمان في تأزيم سلوك المراهقين عوضاً عن تصويبه، كما وجدت الدراسة أن المراهقين الذين استخدم أهاليهم التعنيف الكلامي لتأديبهم عانوا من معدلات مرتفعة من عوارض الكآبة وكانوا اكثر عرضة للمعاناة من مشكلات سلوكية مثل السرقة والسلوك العدائي المعادي للمجتمع.. ووجدت الدراسة أن آثار التأديب اللفظي مشابهة لآثار التأديب الجسدي وستبقى مع المراهقين على المدى الطويل.. وأن فكرة الصراخ على المراهقين لتربيتهم ولتقويم سلوكهم بدافع الحب أو من أجل مصلحتهم لم يخفف من حدة الضرر اللاحق جراء الصراخ، واستنتجت الدراسة أن المراهقين يتلقون تأديباً كلامياً عند إظهارهم مشكلة سلوكية، واعتبرت الدراسة المسألة"بالحلقة المفرغة"معتبرة أنها مسألة يصعب اتخاذ قرار فيها حيث إن المشكلات السلوكية للأطفال تدفع الأهالي إلى تعنيفهم كلامياً في حين أن هذا التعنيف قد يدفع المراهقين باتجاه هذه المشكلات السلوكية عينها..! السؤال لماذا كانت الأجيال السابقة تتحمل كل التعنيف الجسدي واللفظي من المنزل والمدرسة باعتياد وتفوق وعدم وجود مشكلات سلوكية مقابل أن الأمر اختلف في العقدين الماضيين حيث أصبح العنف سبباً من الأسباب النفسية والمرضية التي تصيب المراهقين وتساهم في فشلهم في الحياة على المدى الأبعد؟