الغرق في التفاصيل هو، على ما يبدو، أبرز سمة في الحياة العربية السياسية المعاصرة.. وهذه التفاصيل لا نخترعها نحن وإنما تفرض علينا وفق الأجندة التي تناسب الآخرين.. وهؤلاء الآخرون هم خصومنا وأعداؤنا.. ولنا أن نتصور، بعد ذلك، كيف يمكن أن تكون النتيجة التي تنتهي إليها معظم القرارات التي يتم اتخاذها في وطننا العربي! نحن نجيد الجلوس في مقاعد المتفرجين.. وقد أدمنا دور المتلقي الذي ينتظر مبادرات الآخرين ثم يفكر كيف يتصرف.. وعندما يظن أنه قد اهتدى إلى التصرف المناسب يجد أن كل شيء قد تغيرمن حوله لأنه جاء متأخراً كثيراً.. عند ذلك نبدأ نفكر كيف نتعايش مع هذا الواقع المتغير.. وما أن نتكيف مع واقعنا الجديد حتى تتزلزل الأرض من تحت أقدامنا عندما يقرر الآخرون، مرة أخرى، أن يرجمونا بمبادرة جديدة لم تخطر لنا على بال!! ولو تأملنا، على سبيل المثال، أهم قضية عربية ساخنة على مدى أكثر من نصف قرن، وهي القضية الفلسطينية، لوجدنا أن المواقف العربية لا تزيد على أن تكون ردود أفعال تجاه التفاصيل الكثيرة التي يفرضها علينا الطرف الآخر ومن يتحالف معه.. أما جوهر القضية وعنصرها الأساسي فهو مؤجل أو نكتفي باتخاذ مواقف عاطفية متشنجة تجاهه دون أن نعرف ماذا نريد بالضبط.. ففي حين يعلو الحديث هذه الأيام عن معبر رفح وعن المناوشات التي تحدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتم تجاهل أكبر مصيبة ألا وهي إجراءات إسرائيل الحثيثة لضم القدسالشرقية بشكل أبدي ونهائي من خلال بناء واقع لا يمكن تغييره! والغريب أن من يتحدث هذه الأيام عن هذه المصيبة الكبرى ليس العرب وإنما الأوروبيون لأن العرب غارقون في بؤسهم اليومي وفي التفاصيل التي تفرضها عليهم «إسرائيل».. وقد خصصت صحيفة الجارديان البريطانية موضوع الغلاف في عددها الصادر في نهاية الأسبوع الماضي عن القدسالشرقية وما تفعله «إسرائيل» من أفاعيل لتهويدها.. ورأت الصحيفة أن ما تفعله «إسرائيل» يشكل انتهاكاً واضحاً لما تضمنته خارطة الطريق لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وأفردت صحيفة الاندبندنت صفحة كاملة عن هذا الموضوع بمناسبة اعتزام بريطانيا تقديم تقرير سري إلى الاتحاد الأوروبي عن الإجراءات الإسرائيلية لضم القدسالشرقية وهي الإجراءات التي وصفها التقرير البريطاني الرسمي بأنها تحول دون إمكانية أن تصبح القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.. وقد نشرت الاندبندنت خريطة ملونة فضحت فيها ما تقوم به «إسرائيل» من مشاريع استيطانية.. وجريدة الفاينانشيال تايمز، هي الأخرى نشرت تفاصيل هذا التقرير البريطاني عن القدسالشرقية. إن ما يمكن أن يخرج به القارئ من هذه الموضوعات التي نشرتها الصحافة البريطانية ليس سوى الإحباط الشديد.. ففي خضم ما تعج به وسائل الإعلام العربية من أخبار وتقارير وتغطيات لا يكاد المرء يرى أو يقرأ أو يسمع إلا أقل القليل عن هذا الموضوع.. وسبب ذلك هو أننا مشغولون بالتفاصيل اليومية الساخنة لموضوعات خانقة ومأساوية أخرى تحجب عن أعيننا كارثة مدمرة تتشكل يوماً بعد يوم!