في عام 1993 قضيت شهر العسل في ولاية فلوريدا، وبسبب حبي للطيور الملونة بحثت عن حديقة تدعى باروت جنغل (أو غابة الببغاوات). وبالصدفة وجدت سائق تاكسي يعشق بدوره الطيور ويملك مجموعة كبيرة منها - كما أخبرني - في بلده الأصلي (تاهيتي). وفي منتصف الطريق تقريباً توقفنا بقرب كشك لبيع السندوتشات والبطاطس المقلية. وحين عدنا إلى السيارة عرضت عليه شيئاً منها فرد عليَّ بجملة ما زالت عالقة في رأسي (عفواً، لا آكل شيئاً مسته النار) استغربت حينها وقلت هل تعني أنك لا تأكل غير الأشياء الطازجة؟ قال: ليست طازجة بالضرورة ولكنني فقط لا آكل الأشياء المطبوخة.. عدت وسألته: هل تعاني من علة ما؟ ضحك وقال: لا، ولكنني أنتمي لطائفة في تاهيتي لا تأكل أي طعام طُبخ على النار.. هذا الموقف ذكرني بثقافات وديانات كثيرة تُحرم على أتباعها المخلصين تناول أي طعام مسته النار. وبسبب صعوبة منع الطبخ (بشكل نهائي) غالباً ما تنحصر هذه الممارسة بين الرهبان والنُساك كدليل على الزُهد والتقوى.. فبوذا مثلاً نذر ألا يأكل غير النباتات والفواكه الطرية - وحين مات كان قد اكتفى بحبة عنب في اليوم. أما الإسرائيليات فتحكي عن رهبان وعباد عاشوا متنسكين واكتفوا بأوراق الشجر أو الفواكه البرية فقط.. وتقول بعض الروايات إن يعقوب عليه السلام حين مرض نذر إن عافاه الله ليمتنعن عن لحوم الإبل وألبانها حتى جرت سنة بني إسرائيل على ذلك {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} ورغم أن معظم الروايات تحدثت عن امتناعه عن لحوم الإبل إلا أن بعض المفسرين تحدثوا عن كل طعام مسته النار!! .. على أي حال طبخ الطعام يُعد «موضة طارئة» مقارنة بعمر الإنسان على الأرض (!!) فقبل أن يكتشف الإنسان دور النار في تطييب الطعام كان - مثل بقية المخلوقات - يأكل اللحوم والخضروات بحالتها الطازجة وعناصرها الخام.. واليوم تتراكم الشواهد على خطورة المبالغة في طبخ الطعام وتعريضه لدرجات حرارة عالية لفترة طويلة، فجميع الأغذية (من فواكه وخضروات ولحوم) خلقها الله متوازنة من حيث تركيبتها الكيميائية وصلاحيتها للهضم والاستهلاك الآدمي. وحين تتعرض لدرجات حرارة مرتفعة تختل تلك التركيبة وتفقد بعض فعاليتها (وتتحول لغذاء ميت بالفعل).. ويمكن بسهولة ملاحظة نتائج هذا العمل بمراجعة المشاكل التي تصيب الإنسان دون غيره من الحيونات.. فرغم أن معظمها يشترك مع الإنسان في تناول نفس الأطعمة إلا أنها نادراً ما تصاب بأمراض شائعة كالسكري والسمنة والسرطان وفشل الكُلى.. وكان الدكتور فرانسيك بوتنجر (من جامعة كاليفورنيا) أول من أجرى تجربة موثقة للكشف عن أي فوارق محتملة بين تناول الطعام المطبوخ والطازج. فبين عامي 1932 و1942 قام بمراقبة ثلاث مجموعات رئيسية من القطط لعشر سنوات متتالية.. المجموعة الأولى أطعمها أغذية مطبوخة وحليباً مبستراً بشكل دائم، والثانية أطعمها أغذية طازجة مع حليب غير مبستر، أما الثالثة فخلط لها بين النوعين.. وخلال أربعة أجيال اتضح أن المجموعة المرفهة (التي تناولت أغذية مطبوخة على الدوام) عانت من الأمراض المزمنة وماتت في سن مبكرة. أما المجموعة الثانية فلم تعان من أي أمراض مزمنة وعاشت لسن متقدمة ومارست حياتها بنشاط كبير.. أما المجموعة الثالثة (التي تناولت خليطاً بين الاثنين) فتفاوتت في عمرها ونسبة إصابتها بالأمراض - ولكنها لم تكن أحسن حالاً من المجموعة التي عاشت على الأطعمة الطازجة!! .. على أي حال، أنا أول من يعترف بصعوبة إلغاء فكرة «الطبخ» بشكل نهائي ودائم، ولكن مجرد لفت الانتباه للأغذية الطازجة - وتقليل درجة الحرارة وفترة الطهي - يظل كافياً لتحسين صحتنا خلال أربعة أسابيع فقط.. (وفي المقال القادم سأستعرض معكم بعض الدراسات التي تثبت هذه الحقيقة)!!