مَن يتأمّل المناخ الفكري والنفسي السائد الآن بخصوص الوضع في سوريا، لا بد وأن يتذكّر المناخ الفكري والنفسي الذي كان سائدًا قبل وأثناء الغزو الأمريكي للعراق. حالة الاصطفاف، والتحزّب، والتشنّج التي تكاد تسيطر على الأجواء الآن، هي نفس حالة الاصطفاف، والتحزّب، والتشنّج التي كانت مسيطرة على الأجواء قبل وأثناء وبعد غزو العراق بأشهر قليلة. الجمهور العربي الآن معبأ بالكامل، تمامًا كما كان عليه الحال أثناء فترة التحضير لغزو العراق. ولأن المعبئين، والمصطفين، والمتحزّبين لا يستطيعون إعمال عقولهم حسب ما تمليه مقتضيات التفكير العميق من تجرّد وهدوء يصل حد البرود، فإن موقف الأغلبية يكاد لا يخرج عن خانتين لا ثالث لهما: مع أو ضد. المسألة بالتأكيد أعمق وأكثر تعقيدًا من هذا التبسيط والاختزال، فرفض النظام الإجرامي في دمشق لا يستتبع بالضرورة الاصطفاف إلى جانب أعدائه جميعًا، حتى ولو كان الغرب من جملة هؤلاء الأعداء. لقد جرّب الكثيرون الاصطفاف وراء العدو الأول للنظام الصدامي المجرم، فماذا كانت النتيجة؟ نعم.. بالضبط.. مليون قتيل، وخمسة ملايين مشرّد حتى نهاية العام 2008م، أي قبل أقل من ثلاث سنوات بقليل، فترى كم وصلت الحصيلة اليوم؟! هناك دور أساس تقوم به بعض وسائل الإعلام في إذكاء نار الاصطفاف، وفي تحويل القضية إلى صراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.. والحقيقة أن الصراع تشعّب في المدة الأخيرة، وبالتحديد منذ أن تحوّل من صراع بين الثوار السلميين، وآلة الحرب التي يمتلكها النظام الإجرامي، إلى صراع له أبعاد دولية وإقليمية أدّت إلى تحويل القضية السورية إلى قضية صراع على النفوذ بين كل من الغرب وروسيا من ناحية، وبين كل من تركيا وإيران من ناحية أخرى. وسط هذه الأجواء الدولية المحتقنة، ووسط مناخ التعبئة والاصطفاف الذي كان لقناة الجزيرة الدور الأبرز فيه، يبدو المواطن العربي حائرًا ومنقسمًا على نفسه، فبين مؤيد للتدخل الأجنبي، وبين مؤيد للنظام باعتباره مستهدفًا من قبل القوى الاستعمارية. والحقيقة أن هناك خيارات كثيرة في المنطقة الوسطى بين الخيارين السابقين، لكن مناخ الاصطفاف هو الذي يحول بين الناس وبين رؤية هذه الخيارات. الإصابة بالعمى هي النتيجة الحتمية لمناخ الاصطفاف.