هناك حقيقة جاثمة على صدري، وهي أن العديد من الحُكَّام العرب لا يتّعظون من دروس الماضي ولا الحاضر، ومبتلون بداء «المكابرة» ومغالطة الواقع. وأتعجب أيضًا من اندفاع بعض الحكومات العربية في أحضان روسيا ذات السياسات «الرمادية» والمواقف غير واضحة المعالم، والتي لم تجلب للشرق الأوسط نموًّا اقتصاديًّا، ولا دعمًا دفاعيًّا، ولا سياسيًّا، بل هي نفسها تعاني من عقبات اقتصادية، وتفكك سياسي وأمني يعصف بها بين الحين والآخر. مؤخرًا.. عندما قام المليونير الروسي كيرسان اليومجينوف -رئيس اتحاد لعبة الشطرنج والرئيس السابق لجمهورية كالميكيا إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي- بزيارة القائد الليبي معمر القذافي مطلع شهر يونيو الماضي، كانت هناك تغطية إعلامية كبيرة على مستوى العالم لتلك الزيارة المفاجئة والغريبة. وتكمن غرابة تلك الزيارة في أنها تزامنت مع قصف جوي عنيف من قِبل قوات الناتو تجاوز السبعة آلاف غارة جوية على طرابلس، وأضف إلى ذلك تصريح اليومجينوف بأنه ذهب إلى طرابلس من أجل لعب الشطرنج مع صديقه القذافي، وإسداء بعض النصائح عن اللعبة، والأهم من ذلك أن روسيا من المفترض أن لديها مبعوثًا «رسميًّا» وهو ميخائيل مارغيلوف مبعوث الرئيس الروسي الخاص لإفريقيا ولحل الأزمة في الشرق الأوسط. وبحسب ما تناقلته الصحف الروسية عن تلك الزيارة، ذكر ميخائيل مارغيلوف مبعوث الرئيس الروسي الخاص لإفريقيا ورئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس الفيدرالي الروسي بأن كيرسان اليومجينوف هاتفه عشية زيارته إلى ليبيا قائلاً: «لقد اتّصل بي، وأبلغني أنه ذاهب للسفر إلى طرابلس، وسوف يجتمع مع القذافي لمناقشة مسائل في لعبة الشطرنج»، وذلك بحسب ما صرّح به لوكالة الأنباء الروسية نوفوستي. وتابع مارغيلوف حديثه عن مكالمته الهاتفية مع اليومجينوف: «لقد نصحته باللعب بالفريق الأبيض، واستخدام تكتيك (E2 to E4) ويوضح للقذافي أن اللعبة شارفت على الانتهاء». والجدير بالذكر أن خطة (E2 to E4) هي مصيدة سريعة «للسذج» تتألف من خطوتين فقط لحصار الملك من كل الجهات، ولا يسعَ له بعدها إلاّ الاستسلام وإنهاء اللعب.. لذلك، من المؤكد أن القذافي كان سيلعب إمّا بطريقة تشبه تكتيك «خط ماجينو» وهي الخطة الفرنسية التي تعد نموذجًا للتحصينات الدفاعية الثابتة، أو اللعب بالطريقة اليابانية «كاماكازي» ذات الطابع الهجومي الانتحاري. هذه الزيارة التي مر عليها أكثر من شهرين تعكس ضبابية ونمط السياسة الروسية في الشرق الأوسط منذ اتفاقية سايكس- بيكو- سازانوف عام 1916م التي قسمت الولاءات في الشرق الأوسط ما بين فرنسا وبريطانيا وحلفائهم، وعلى الرغم من أن المبعوث الروسي «الرسمي» للشرق الأوسط ميخائيل مارغيلوف قد أدان أعمال القمع ضد الشعب الليبي، وتصريحه بأن نظام العقيد معمر القذافي فقد شرعيته، إلاّ أن الحكومة الروسية أيضًا عارضت ضربات الناتو الجوية لليبيا بحجة أنها تتسبب في مقتل المدنيين بالخطأ. وفي وقت متزامن، يتفاجأ العالم أيضًا بزيارة بعض رجالات الكرملين من أمثال كيرسان اليومجينوف ليحمل رسائل خفية تعيد ذكريات الحرب الباردة. وربما تريد روسيا الوقوف دائمًا بجانب كل من هو مستفز للولايات المتحدة حتى لو كان ذلك على حساب دماء شعوب بأكملها، فمنذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في 29 يناير 2002 بأن العراق وإيران وكوريا الشمالية هم «محور شر» عالمي نظرًا لمحاولة امتلاكهم أسلحة دمار شامل وتهديد أمن العالم وأعقبه بفترة وجيزة تصريح السفير الأمريكي لدى الأممالمتحدة جون بولتون بأن ليبيا وسوريا تصنف ب «ما وراء محور الشر»، منذ ذلك الحين وروسيا في حالة تقرب ودعم مستمر لغالبية هذه الحكومات التي تصنف الآن على إنها من أبشع الديكتاتوريات التي انتهكت حقوق شعوبها. إن ما حدث سابقًا في العراق خلال العقدين الأخيرة من حياة الرئيس الراحل صدام حسين ونهايته البائسة والذليلة، والنهاية غير المتوقعة لأقرانه في مصر وتونس واليمن، كان من الممكن أن يكون درسًا عمليًّا لبعض الحُكَّام العرب من أمثال بشار الأسد في سوريا، ومعمر القذافي في ليبيا. خاصة وأن شخصية مثل صدام حسين، والذي كان يعتبر أقوى عسكريًّا واقتصاديًّا من سوريا وليبيا مجتمعة، ومع ذلك لم تشفع له كل تلك العوامل، ولم تنفعه مكابرته وتحديه للمجتمع الدولي وإرادة شعبه. لذلك فإني أرى في مكابرة بشار الأسد ومعمر القذافي وتعاليهم على إرادة شعوبهم وعدم اتعاظهم من دروس الماضي والحاضر حكمة إلهية عظيمة تمثلت في قوله سبحانه وتعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (سورة البقرة – 7).