يصعب علينا الحديث عن العمل الخيري اليهودي جملة، حيث إنه ليس محصورًا في مجتمع واحد ولا بلغة واحدة، كما أن تجربته تمتد على نطاق زمني واسع. • كما أنه ليس بذي ميزة بنفسه؛ فهو يتشكل وفقًا للبيئة التي هو فيها وإن حاول اليهود إقناع الناس أن لهم خاصية ما. وقد درس د. عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- مسألة “يهودية” أي مجتمع أو ظاهرة مرتبطة باليهود، مبينًا أن تلك المقولة “تفترض وجود هذا الجوهر اليهودي الخالص الثابت الذي يجعل من يهودية اليهودي النقطة المرجعية الأساسية لتفسير سلوكه. أما العناصر غير اليهودية، مثل السياق الحضاري الإنساني الذي يوجد فيه أعضاء الجماعات اليهودية، أو حركيات المجتمعات التي ينتمون إليها، أو تفاعلهم مع أعضاء الأغلبية، بل العناصر الإنسانية المشتركة مع بقية البشر، فهي عناصر يُفترَض فيها أنها عَرَضية تنتمي إلى السطح ولا تفيدنا كثيرًا في تفسير الظواهر اليهودية، حيث يتم تفسير هذه الظواهر من الداخل فقط”. (1) • بعض جوانب العمل لدى اليهود ليس “خيرا” ولا “عملا إنسانيا” كطرد الفلسطينيين واحتلال أراضيهم وقتلهم وتشريدهم، مما أسهمت به منظمات يهودية منذ أن بدأ مخطط الاستيطان في فلسطين في بداية القرن العشرين الميلادي. والمراد ب “العمل الخيري” في هذا البحث هو: “أي عمل منظم تقدمه جهات غير حكومية للمستفيدين من غير انتظار منفعة”. وهو ما يعبر عنه بتعبيرات أخرى كالعمل الإنساني أو التطوعي أو القطاع الثالث. ومن ثم فإننا نحصر مهمتنا في أن نتعرف ما يقوم به اليهود من عمل خيري أو إنساني وفق التعريف السابق أينما كانوا. فالنسبة هي إلى القائمين به والمشرفين عليه لا إلى وجود خاصية تميزه. كما أن ما يكتب ها هنا إنما هو من باب المقدمات التي تمهد لطرق الموضوع ولا تدعي ولا تنوي الإحاطة به. اهتم اليهود بالعمل الإنساني ومنظماته منذ عهد مبكر في بيئتهم الإسلامية والأوربية والأمريكية. من تلك المنظمات ما هو ديني واجتماعي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو عسكري إرهابي، ومنها ما جمع بين ذلك كله. كما اختلفت “أجندة” المنظمات، فمنها ما لديه أجندة معلنة، ومنها ما هو سري. ومنها ما هو مفتوح للجميع ومنها ما هو مخصص لفئة معينة. وقد تعلم اليهود من بيئاتهم أهمية التجمع والالتفاف حول تلك المنظمات ودعمها في غياب حكومة مركزية تخدم أهدافهم وترعى شؤونهم. وتميزت المنظمات اليهودية في أمريكا الشمالية وأوربا بتوسع عددي ونوعي بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تضاعفت أعدادها مرات، وتنوعت برامجها. فقد استثمر اليهود مجموعة من العوامل التي أسهمت في تحسين أوضاعهم المعيشية والاجتماعية وانعكس ذلك على مؤسساتهم ومنظماتهم، ومن تلك العوامل: 1) التعاطف الذي كسبوه بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارهم ضحايا المحرقة في ألمانيا النازية، فأنشأوا منظمات كثيرة لهذا الغرض ومتاحف ومراكز دراسات... إلخ. ولا يزالون يستفيدون من هذا التعاطف الغربي إما رهبة منهم أو عطفا عليهم! 2) واستفادوا أيضا من الأجواء التي سادت الولاياتالمتحدة بالذات في الستينيات من القرن العشرين؛ فساند بعضهم حركة المطالبة بالحقوق المدنية Civil Rights Movement وغنموا كثيرا من الحقوق التي لم ينلها بعض أهل البلاد كالأمريكيين الأفارقة (السود) أو أهل البلاد الأصليين (المسمًّوْن بالهنود الحمر سابقا) أو الهسبان Hispanics. وقد وقع خلاف بين اليهود حول المشاركة في تلك الحركة، ومن ثم فإن علاقة الجالية اليهودية مع الأمريكيين السود ظل يشوبها شيء من التوتر. (2) 3) اتجهوا إلى السيطرة على أسواق المال ووسائل الإعلام في الغرب، فنجحوا في ذلك إلى حد بعيد مما جعل لهم اليد الطولى في (هوليوود) مثلا. كما أن سيطرتهم على الشركات والمؤسسات الكبرى أمر مشهور. كل هذه العوامل انعكست على أداء المنظمات التابعة لهم وأثرت في توجهاتها وأغنتها إلى حد كبير. 1- سمات العمل اليهودي: يتميز العمل اليهودي بعدة سمات، منها: (3) 1. أن العمل اليهودي متطور تنظيميًا؛ إذ اعتمدت الجاليات اليهودية كثيرا على جمعياتها نظرا لغياب السلطة اليهودية التي تُغني تلك المجتمعات. ومن ثم يجد المراقب الجمعيات اليهودية في الغرب عموما تبدو عليها روح الثراء في مبانيها ومناشطها المحلية وحفلاتها الباذخة التي تُعدها لجمع ملايين الدولارات. كما أن ما كُتب عن التجمعات اليهودية والجمعيات والمؤسسات بالإنجليزية يفوق في حجمه وتنوعه ما كتب عن العمل الإسلامي عامة. ففي ويكيبيديا مثلا معلومات وافرة عن كل تجمع يهودي وكل منظمة تقريبا وكل فترة تاريخية... إلخ. وهو عمل ينم عن جهد مركز ومنظم. ولا يعني ذلك أن المنظمات لا تعاني من إشكالات، بل ذكر أحد الباحثين أن التحريات ترى أن 81% من الجمعيات في إسرائيل واجهت صعوبات مالية على إثر الأزمة المالية عام 2008م، وأن 12% أشارت إلى حدوث انخفاض شديد في مداخليها. كما أن بعض المؤسسات المانحة الداعمة للمنظمات وأعمالها إما أفلست أو تضررت فقلّ ما تقدمه من تبرعات بعد فضيحة ميدوف المالية Madoff scam عام 2008م حيث كانت تلك المؤسسات ضمن المستثمرين معه. (4) 2. أن العمل اليهودي مغلق على اليهود أنفسهم، فقد انشغلت المنظمات اليهودية بخدمة اليهود نظرا لما تعرضوا له من ظروف خصوصا إبان الحرب العالمية الثانية. فالعمل اليهودي محدود في نطاق اهتماماته؛ إذ تدور اهتماماته على محورين يكاد يقتصر عليهما: • على رعاية الجاليات اليهودية في العالم. • وعلى مناصرة اليهود المستوطنين في فلسطين منذ أن بدأ الاستيطان من بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد إعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948م. ثم تحول ذلك إلى مناصرة محمومة للدولة اليهودية نفسها. 3. أن العمل اليهودي خليط من العمل الخيري والسياسي والعسكري؛ فهنالك منظمات يهودية تجمع أموالًا للمجهود العسكري والاستيطاني لدولة اليهود في فلسطين، وهنالك منظمات صهيونية ذات أجندة سياسية معلنة.. وهكذا. وما يقع في فلسطين هو مثال حي على ذلك؛ فهنالك منظمات تجمع أموالا للمجهود الحربي الإسرائيلي، ومنظمات لدعم المستوطنين، ومنظمات لنصرة اليهود الإسرائيليين لئلا يغادروا. وكل ذلك يمارس بشكل نظامي في الولاياتالمتحدة وغيرها!! ولو نظر الباحث في أعمال الجمعيات الكبرى لوجدها لا تخرج عن هذا النطاق؛ فمنظمة أبناء العهد (بْني بْرِثْ B'nai B'rith ) في أمريكا التي أسست عام 1843م في نيويورك همها خدمة الجاليات اليهودية ومناصرة دولة اليهود في فلسطينالمحتلة. (5) وقد تلونت اتجاهات تلك المنظمات اليهودية؛ ومن أخطرها المنظمات العسكرية التي قامت بأعمال إرهابية ضد المدنيين في فلسطين وغيرها؛ ومن أبرزها منظمة (ليحي Lehi ) المعروفة أيضا بمنظمة (شتيرن) المسؤولة عن عدة مذابح في فلسطين بالتعاون مع منظمات يهودية أخرى كمنظمة أرغون، ومن تلك المذابح مذبحة دير ياسين. كما دبرت مقتل المندوب البريطاني في مصر عام 1944م، ومندوب الأممالمتحدة في فلسطين فولك بيرنادوت عام 1948م. وفجرت في عدة مناطق في فلسطين لإرهاب الفلسطينيين ولإقلاق المحتل الإنجليزي وضمان تولي زمام السلطة بعده في فلسطين. ولمعالجة هذه الصورة القاتمة قامت السلطات اليهودية بعد إعلان دولة الاحتلال عام 1948م بخطوتين: الأولى هو إدخال تلك المنظمات والمجموعات الإرهابية ضمن النسيج الرسمي للدولة. والثانية العفو عن مرتكبي الجرائم، ومن أبرزهم أعضاء ليحي (شتيرن) الذين تحولوا إلى قادة لدولة اليهود. (6) وقد ذكر المسيري أنه “في عام 1948 كان التجمُّع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين يضم ثلاثة تنظيمات عسكرية هي: الهاجاناه وهي كبرى التنظيمات الثلاثة وكانت خاضعة للوكالة اليهودية، ومنظمة إتسل المنبثقة عن أفكار جابوتنسكي التنقيحية وكانت آنذاك بزعامة مناحيم بيجين، ومنظمة ليحي وهي أصغر المنظمات وكانت قد اشتهرت باسم قائدها أبراهام شتيرن. وقد تم بناء الجيش الإسرائيلي على هذه المنظمات الثلاث. ففي السادس والعشرين من مايو عام 1948، وفي غمرة معارك الحرب العربية الإسرائيلية الأولى تم إعلان قيام جيش الدفاع الإسرائيلي، وذلك بتحويل منظمة الهاجاناه إلى نواة لهذا الجيش، ودخول التنظيمين الأخيرين، إتسل وليحي، في دائرة هذه النواة”. (7) هوامش: 1- عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية،3/1-4 (المكتبة الشاملة) 2- انظر مقالة في ويكيبيديا (الإنجليزية): History of the Jews in the United States حيث أشار باقتضاب إلى ذلك. 3- انظر كتاب: Gridon، Bengamin et al. The Israeli Third Sector، New York: Kluwer Academic/Plenum Publishers، 2004، p.?????? 4- ورد ذلك في تلخيص لكتاب صدر عام 2010م:Dr. Hagai Katz and Hila Yogev-Keren، The Third Sector and the Financial Crisis: Can we do more with less? في نشرة المركز الإسرائيلي لدراسة القطاع الثالث، نوفمبر 2010م العدد (36) ص 4-5. 5- ويكيبيديا (الإنجليزية)، مادة: “B'nai B'rith”. (في 9/5/1430ه) وانظر: عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 12/193. (المكتبة الشاملة) 6- انظر مقالة عن ليحي “Lehi” في ويكيبيديا (الإنجليزية)، (في 10/5/1430ه)؛ وعن منظمة “شتيرن” في ويكيبيديا (العربية). (في 16/6/1430ه). 7- عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 19/345، 367 وما بعدها. (المكتبة الشاملة).
