إذا هوت طائرة من ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم في المحيط وافترست أسماك القرش أشلاء الركاب فالطبيعي أن تشعر بالألم الشديد والأسى على الضحايا، ومؤكد سينتابك استياء حانق من أسماك القرش المتوحشة، وستبقى متأثرا مهموما مسكونا بالألم السحيق طالما تتردد أنباء الطائرة المنكوبة على مسامعك وستظل ذكريات الحدث وصوره تتردد على حواسك كلما قابلت البحر أو شاهدت طفلك يلعب بطائرته، وحين تسقط الطائرة على قرية فقيرة فيهب الفقراء لاغتنام أغراض الضحايا وأموالهم وسرقة الساعات من الأيادي الممزعة، فإن الكارثة الإنسانية هنا لا تقتصر على مكان السقوط ولا يمكن حصر مداها ولا الوقوف على تاريخها، وستكون أنت ممزقا بين ضحايا الطائرة وضحايا الفقر الذين عطَّل الفقر إنسانيتهم وبريق الذهب خطف أبصارهم على بشاعة المنظر وفظاعة الموقف فصار واحدهم يمسك باليد البشرية الممزقة ولا يراها وينهش القطع الذهبية قبل أن يستدل عليها الآخرون. لكن لو سقطت الطائرة في حي راق لا يسكنه إلا الأثرياء، ماذا لو هبوا لاغتنام الضحايا؟! هل ستحتار مع من تتعاطف؟! على أرض الواقع العربي تهوي كثير من الطائرات وبشكل يومي، وكثير من الأشلاء تفترسها وحوش القرش ويقتات منها الفقراء ويتضخم بها الأغنياء، ويتكرر المشهد على نحو يصيب المتفرج العربي -على تاريخية عواطفه الجياشة - بالتبلد، وعادة لا يهم، لكن هذا التبلد يصبح كارثيا إذا أصاب الحكومات وهيئاتها التشريعية فلم تبادر بإجراءات ملائمة لحماية الإنسانية في نفوس الفقراء من الفناء تحت كفر الفقر، ولم تضرب الأسوار على البحار لئلا تغادرها أسماك القرش وتجوب الشوراع لا يوقفها ضوء أحمر. الفقر ليس خيار الفقراء بكل تأكيد، وليست مشكلة أن يكون الثراء خياراً للكثيرين، لكن الطامة العظمى حين يفقد التوازن ويرهن تحقيق أحلام القليل بسحق الأغلبية بالأعباء والتبعات والاضطرار لما يتحكم به الأثرياء حتى يوغلوا في الثراء ويبالغوا في طلبه فتنمو أرصدتهم وتكبر (كروشهم) ولا يرون أمامهم ويدوسون أي شيء في طريقهم، ولا يزداد الوضع مع الأيام إلا عمقا وتناميا، فيسرف الفقر في الكفر، ويسرف الثراء في الافتراء.