وأولئك الأعلام الذين ذكرتهم من ذوي التخصص في الفكر الفلسفي هم الخلاصة اليوم، وسبقهم بأجيال الطلائعُ الأولى من بعثات محمد علي، وفيهم من نشأته دينية على المذاهب السائدة فقهًا وعقيدة وطرقًا صوفية، ومنهم من نشأته في الدراسات التراثية كاللغة والتاريخ، وكلهم بين مُقِلٍّ ومُكْثِر، إلا أن جمهورهم عادوا بالعقلية التي أسلفتها عن المليين الذين منطقهم: “ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا”[سورة النساء/89]؛ فعادوا باسم التطوير والتحديث حربًا على إرثهم الشرعي المعصوم على النحو الذي أسلفته عن الشيخ محمد عبده -رحمه الله تعالى-، وأضاف بعضهم على الاحتواء الخواجي الاستمداد من ضلال تراثنا الفلسفي كالتخييل والتجهيل، وأن الشرع للعامة، وأن الخاصة يصِلون إلى الحقائق بمواهبهم، ثم يؤولون النصوص الشرعية بما يوافق ضلالاتهم إرضاء للعامة، ولا شُمامة في تلك التأويلات من دلالات اللغة، وضرورات الشريعة وضرورات الفكر.. أَلْمَحَ إلى ذلك بإجمال ابن طفيل في قصة خيالية عنوانها (حي بن يقظان) متلثِّمًا بمذهب أهل التَّقية، وتوسع في ذلك ابن سينا وابن رشد في (فصل المقال) و (قواعد الملة)، وهذان الكتيِّبان اللذان أُغرم بهما الحواة من المعاصرين أضعف وأسخف ما في إنتاج ابن رشد، وعبقريته في غير هذين مع تحفُّظٍ في الإلهيات ونظرية المعرفة، وأما هذان الكتابان فهما هذر إنشائي، وظلم للعقل بسلوكٍ رديئ هو التضليل. والفئة الثالثة عامة المثقفون، وهؤلاء ليسوا علماء، ومن كان ذا تخصُّص في فنٍّ فهو محكوم بالثقافة الشعبية للعلم المادي والاحتواء الفلسفي الخواجي. وهؤلاء بُهِرَ بهم الشباب الذين لم يتمكَّنوا بعدُ في تخصُّص، وبهرت بهم الصحافة، وهي لغة الثقافة الشعبية في جوٍّ يشعرون فيه بالدونية لتخلفهم في الصناعة، وكل علم يحقق مهارة نافعة أو قوة حامية، وتطلبوا كل ما هو خارج التراث مما هو عند ذوي العلم المادي بتلهُّفٍ وبإجمال وبلا استثناء؛ فكان من خلاصتهم بعد البعوث الأولى من أمثال الدكتور طه حسين، وهو ذو تخصُّص أدبيٍّ متألق على منهج المختصِّين في الأدب من النقاد وأصحاب كتب الأدب المقارن، ويفوقهم لذة إيقاع، وهو ذو لَمْسٍ بالأصْبع لمجالي الجمال والدلالة كمعالجته في كتابه عن المتنبي قصيدته: أنا ابن مَن بعضه يفوق أبا (م) م الباحث والنجل بعض مَنْ نَجَلَه وكتحليله لقصيدة: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تُسعدا والدمع أشفاه ساجمه وحديث الأربعاء من آيات الجمال في تسهيل الأدب الصعب للناشئة، وتلمُّس مجالي دلالته وجماله، وكانوا يُحضرونه تكريمًا له ليستفتح أعمال المجمع اللغوي فيتكلم خمس دقائق بإيقاعه اللذيذ، ثم يقوم أمثال العالم الفحل عبدالقادر المغربي بجبته الأزهرية وعمامته -رحمه الله تعالى-؛ فإذا به يَبْجِدُ في اللغة بجدًا عبقريًا عن فكرٍ وعلمٍ استقرائي؛ فيضع الدكتور رأسه ووجهه بين يديه منحنيًا مصغيًا إصغاء التلميذ لشيخه، ولم يكابر أهل الاختصاص كما فعل الأستاذ عباس العقاد -رحمه الله تعالى- وقصَّر في أمورٍ لِنَهمٍ في الثقافة وعدم التخصص فيما رامه من علمٍ نظريٍّ؛ فشارك في تحقيق أعظم معضلة في علم الكلام، ولم يهضمه، وهو المجلدات المطبوعة من (المغني) لعبد الجبار بن أحمد المعتزلي؛ فجاء الكتاب عقيمًا في تقويم النص، وكان شبه خالٍ من التحقيق.. وأنتم تعلمون أن التحقيق ضبط النص على الوجه الصحيح، والتوجيه للمتن بوجه صحيح مرجوح، أو بالخطإ، أو بالتماس عذر من عمل النساخ، وتحقيقُ ثقافة النص بتفسير الغامض، والتعب في التعريف بالمغمور، وأما الترجمة لمثل أبي حنيفة والشافعي والمتنبي، فهو من الفضول وإثقال الحواشي لغير ضرورة، وتحقيقُ فكر النص في الأمور الفكرية بإيضاحه تصورًا وحكمًا ومحاكمته، وهذا لا يوجد في تحقيق كتاب المغني المذكور؛ لأنه لم يهضم مادته؛ فكان بحاجة إلى تحقيق مختص، ومثل ذلك تحقيق المواقف للإيجي لدكتور متطفِّلٍ على هذا الفن.. وتراجع الدكتور طه حسين عن بعض أشياء اشتطَّ فيها، فكان كتابه المعروف الآن عن الأدب الجاهلي تخلُّصًا من بعض شططه، وعاند في مثل (مستقبل الثقافة في مصر)؛ فكان كتابه تجزئة، وتنكُّرًا لعطاء 13 قرنًا من الهجرة المطهرة، وهو تحت سحر شيخه الفرخ مرجليوث [1858 1940 م]، وهو رائد له بتأليف له نفسه عن دعوى وضع الشعر الجاهلي بإطلاق، ومن بالوعته استقى طه حسين أول الأمر؛ ولتأثر طه حسين بالتراث القديم دون الحديث كان موقفه غير مشرِّف مع أمثال رومانسية إبراهيم ناجي.. على أنني لاحظت سطوًا من ناجي على رومانسية الخواجات، وذلك في بعض كتبي؛ فإذا بقصيدة له نص مطابق من رسالة خواجية لاحظتها قديمًا في قراءة لي لبلزاك عن زنبقة الوادي، وكنت قبل ذلك غافلًا عن هذا السطو، فقلت في بعض كتبي: ولكن الروعة والسبق الفني في قصيدة (رسائل محترقة) يحكي فيها قصة يأسه في ليلة مظلمة شاتية يرى فيها رزمة من رسائل ليلاه، استحال لونها إلى زرقة رمادية؛ فحلف لا ذاقت عينه شهي منامها حتى يحرقها لينساها وينسى شبابه، وقد حكى الإمام ابن حزم أحاديث من السلو كهذا.. أحرقها ناجي، وهو يقول: أحرقتها ورميت قلبي في صميم ضرامها وبكى الرماد الآدمي على رماد غرامها وما كان ناجي رمادًا آدميًا إلا لشيخوخته وهرمه، وما كان غرامها رمادًا إلا لأنها تصرمت جذوته في قلبه سلوًا بعد يأس.. وقد قال النقادة الممتاز إبراهيم العريض: “فالضبابة الذاوية إن هي إلا مقدمة الموت البطيئ”.. وإليك القصة بلسان الدكتور إبراهيم ناجي: ذوت الصبابة وانطوت وفرغت من آلامها لكنني ألقى المنايا م(م) من بقايا جامها عادت لقلبي الذكريات م(م) بحشدها وزحامها في ليلة نكراء أرقني م(م) طويل ظلامها نامت رسائل حبها كالطفل في أحلامها زرقاء صيرها البلى كسحابة بغمامها فحلفت لا رقدت ولا ذاقت شهي منامها أشعلت فيها النار ترعى م(م) في عزيز حطامها تغتال قصة حبنا من بدئها لختامها أحرقتها ورميت قلبي م(م) في صميم ضرامها وبكى الرماد الآدمي على رماد غرامها فأين يقع العقاد من هؤلاء المثقفين؟!.. هو -رحمه الله- لم يأخذ العلم منهجيًا في الدراسة، وتعلم الإنجليزية وقرأ بها، وأدمن الاطلاع على الكتب، واستهواه قانون (مِنْدل) الوراثي فطبَّقه في العبقريات والسير، واستهواه المذهب النفسي في الأدب تنظيرًا، ونُسبت إليه مدرسة الديوان؛ فكان تخصصه تطبيق القانون المِنْدلي على منهج الحواة، ولم ينجح الجانب النفسي في الديوان، وإنما اصطفى منه الأدباء ما هو أعلق بالرومانسية، وفشل المنهج النفسي، وإن بذل تلميذه سيد قطب كل جهده لنشره، وهو متميز في حُسْن الإيقاع على شيخه العقاد وغيره، ولم ينجح العقاد شاعرًا، ولم يُحرم التوفيق في مسائل سأشير إليها، ومارس التأليف في كل المعارف، والتخصص في كل هذا محال؛ فهو على منهج الاحتواء الثقافي.. إن ابن حجر العسقلاني إمام في الحديث وتخصصات أخرى، والذهبي إمام في علم الرجال وتخصصات أخرى مع قصور الجانب الفكري، والشافعي إمام في الفقه والحديث واللغة والأصول، وسيبويه إمام في النحو، وابن فارس إمام في اللغة.. إلخ، وأما عباس محمود العقاد -رحمه الله تعالى- فواسع الاطلاع والثقافة تستطيع أن تشير إلى قول بعضهم: إنه إمام في النقد الأدبي، وإمام في كتابة السيرة الذاتية على ضوء دراسات علم النفس وقانون مِنْدَل.. ولكن أقول: بروح سعة الثقافة الاحتوائية لا التخصص الاستقرائي، والفكر المؤصَّل؛ إذن هو مثقف يعرف من كل هذه العلوم طرفًا أو يأخذ عنها فكرة عامة أو يحذق بالتفصيل مسألة من مسائلها الجزئية بروح الاحتواء، وعنده وجود بالقوة (أعني الموهبة والاستعداد لالتهام النحو كله لو تفرغ له، ولالتهام اللغة كلها لو تفرغ لها.. إلخ).. وقد قيل عن سعة ثقافته: إن المطبعة لا تكاد تدفع بكتاب حتى يقرأه العقاد، وإن العقاد أخذ مدة لا يقرأ إلا الكتب الأجنبية؛ لأنه قرأ العربية، وإن العقاد لا يمل من القراءة، وإن مكتبة العقاد بلغت أربعة وعشرين ألف كتاب، وإن العقاد لا يكاد يمر بكتاب دون أن يعلق عليه ناقدًا أو مُقَرِّظًا أو مستدركًا أو مصححًا.. أجل إنه مستقرئ في مطالعاته، غير مستقرئ في أبحاثه، وإنه يتناول أي كتاب في الأدب أو الفلسفة أو الدين أو الفن أو التاريخ.. إلخ معتمدًا على ذاكرته التي التقطت شيئًا من قراءاته الكثيرة مستعينًا باحتواء الأفكار بأسلوب إنشائي لا تخصصي، وإذا تناول كتابًا بالنقد فلا تعدو مصادر دراسته كتابين أو ثلاثة؛ لأنه لا يكلف نفسه عناء في تجميع مصادر هذا الفن من مكتبته؛ فيدرس جميع الأقاويل وما تحمله من وجهات نظر وتعليلات وبراهين، ويناقش بالروح التي ذكرتها؛ ولهذا فليست كتبه في الإسلام أو العقيدة ككتابات الشيخ محمد أبو زهرة والبوطي والسنهوري التي هي مراجع للباحثين الجادين إلا في الأحيان النادرة للعبرة والمحاكمة، وهي سلوة المثقفين بروح الاحتواء، وسلوة الصحفيين ذوي الهذر الإنشائي، وطالما سخر شيخي محمد عبدالوهاب بحيري -رحمه الله تعالى- بإنتاج لي في اليفاع بأنه كلام جرائد، وكلام الجرائد عنده شيك بلا رصيد!!.. وليست فلسفته للمسائل الدينية كفلسفة سيد قطب والندوي والمودودي وعبدالقادر عودة مع بعض التحفظات، وليست كتاباته في الفلسفة ككتابات عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وعثمان أمين والشنطي والأهواني مع بعض التحفظات عند الأوَّلَين، وليست كتاباته في اللغة ككتابات الشدياق والكرملي والمغربي ورمضان عبدالتواب والراجحي، وليست معرفته بالتراث العربي كمعرفة الشيخ حمد الجاسر؛ وليست كتاباته في النقد ككتابات مندور وغنيمي هلال ونازك؛ والسر في ذلك أن العقاد مثقف واسع الاطلاع يدَّعي معرفة كل شيء ولا يتخصص في شيء؛ لهذا أقول: إن العقاد وأضرابه وأحباءه لصيقون بقلوب المثقفين، وكلهم مِن الذين يودون أن يعرفوا شيئًا عن كل شيء، وأما المختص فيشيح عن هذه الكتابات ولا يكاد يستفيد منها الباحث الجاد إلا في بعض مسائل الاستنتاج والملاحظات الفكرية إن صحَّت، أو التمثيل لما هو إنشاء غير مختص، وبعضها محلُّ رفض؛ فالعبقريات درة ثمينة بلا ريب عند المثقفين، ولكنها ليست مرجعًا لذوي العلم، وليس سرُّ روعتها استيعابَها واستقراءها؛ لأن مصادر كل عبقرية معدودة على رؤوس الأصابع، وهو من المترجم من كتب الخواجات، وإنما سر روعتها فيما تنطوي عليه من آراء فكرية طرية، وتحليلات نفسية أخذها من دراسات الغربيين لفن السيرة، ولا نكاد نجدها بهذا التوسع في تراثنا العربي القديم، ولا تكاد تجد محاكمة واعية؛ ولتبيان هذه الحقيقة أسوق لكم هذا المثال: ذكر المؤرخون أن عمر الفاروق رضي الله عنه أرسل لزوجة أبي سفيان يطلب منها الخرجيبن الذين جاء بهما أبو سفيان من عند ابنه في الشام، وبعث لها بخاتم أبي سفيان لتصدِّق بأن أبا سفيان هو الذي طلب الخرجين، وقد شكك بعضهم في صحة هذا الخبر؛ بحجة أن المعقول إبهام العدد؛ لأنه ربما زاد العدد أو نقص؛ فتفشل الحيلة؛ فكان هذا هو جواب العقاد: “رأينا أنها رواية أمامنا، وأن الجزم بنفيها هو الادعاء الذي يقوم على غير دليل؛ لأن الجزم بالنفي هنا حَكَمَ باستحالة جميع الاحتمالات التي تقع في الخاطر وليس شيء منها بمستحيل؛ فمن المحتمل أن عمر [رضي الله عنه] كان يعرف عادة السروات من العرب في رحلاتهم، أو يعرف على التخصيص عادات أبي سفيان، ومن المحتمل أن عمر [ رضي الله عنه] استكثر ثلاثة أخرجة على راحلة واحدة، واستقلَّ خرجًا واحدًا فتوسط بين العددين، ومن المحتمل أن عمر [رضي الله عنه] قد رأى ضرورة التحديد؛ لأنه لو طلب كل ما جاء به أبو سفيان لاسترابت زوجته؛ فجازف وصحت مجازفته، ولو لم تصح لما سمعنا بها، ومن المحتمل أن عمر [رضي الله عنه] علم بنبإ الخرجين، وكانت له عيون تترقب العائدين، مِن الرحلات”. قال أبو عبدالرحمن: هذا عمل فكري ثريٌّ في افتراض الاحتمالات، ولكن القاعدة (فتِّش قبل أن تنقش)؛ وذلك بعد توثيق الثبوت، وما ذكره احتمالات مرسلة؛ لهذا ليس في كلامه شُمامة من التوثيق التاريخي وتمحيص الروايات؛ فالعقاد صانع احتمالات، وليس عالمًا مستقرئًا، وما أسهل التأليف بهذه الصفة؟!!.. وردوده على أهل التخصص كرده على أنستاس الكرملي وأمين الخولي ليس فيها شيء من رائحة العلم، وإنما العقاد يستعلي بالجدل والمماحكة والمغالطة والتجريح، ويُدِلُّ بشعبيته وحدَّته المهيبة.
