إنَّ تَرك اللسَان بلا صيانَة، وإنتَاج الكَلام بلا درَاية، واستلهام مَقذوفات الثَّرثرة مِن غير مُتابعة، لهو غَفلة لا مُبرِّر لها، وغَفوة لا تُقبل مِن جَاهل، فكيف بمَن تَعلَّم..؟! وقد كُنتُ في يَومٍ مِن الأيَّام؛ جَالسًا مَع أحد أولئك الذين يعجبونك، مِن خلال مُراجعات الكَلمات التي «يَستهلكونها»، ويُدقِّقون في مَعانيها، فقلتُ له -وقد فَعل لي مَعروفًا- (الله يخلِّيك)، فقَال عَلى الفور: (لا يا أخي، الله لا يخلِّيني، لأنَّ الله لو خلّاني أو تخلَّى عنّي، فإلى أين سَأذهب)..؟! هذه الجُملة فَتحت لي ثَغرة في رَأسي؛ للجَدل حَولها وعَنها وفيها، خَاصَّة وأنَّ الرِّوائي المَصري الكَبير، الذي بَدأ عَمله الدّبلوماسي في جُدَّة -بضم الجيم- «يحيى حقي» له رواية شَهيرة اسمها «خلِّيها على الله»..! أكثر مِن ذَلك، فإنَّ المُطربة «أصالة» لها أُغنية شَهيرة -أيضًا- اسمها «خلِّيها على الله»..! لقد شَغلني هذا الهَم، فأحببتُ أن «أُسوي فيها فَاهم»، ولكن قَبل أن أخطو هَذه الخطوة، بدأتُ -كعادتي- أُراجع المَسألة، وهل بُحِثَتْ مِن قَبل أم لا؟!، وإن كانت قد بُحِثَت، فإنَّ النَّقل مِن السَّابق أولى، ومُراعاة تَاريخ نَسْب الفِكرة أحقّ وأبقَى..! وكَانت الظّنون تتَّجه إلى أستاذنا وشيخنا -ما غيره- «أحمد الغزَّاوي»، صَاحب الشَّذرات النَّادرة، والمَسائل العَاطرة، ولم يَخب الظَّن، فها هو شيخنا يَقول عن جُملة «الله يخلِّيك»: (وهذه الجُملة تَتردَّد عَلى الأفواه والشّفاه آلاف المرَّات يوميًّا، وهي مُحرَّفة أيضًا، فهي بدون تَشديد اللام صَحيحة، بمَعنى الدُّعاء للمخاطب بأن «يُخليَهُ» الله -جَلَّ وعَلا- مِن كُلِّ مَا يَكره ومَا لا يُحب، ومِن المُؤاخذَات والذّنوب والاقترافَات، أمَّا إذا مَضت عَلى التَّشديد فهي عَلى ما يَظهر دَعا عليه، لا له، لأنَّها تَكون مِن التَّرك والإهمَال والتَّخلية والبَراءة..!.. ولا حَول ولا قوّة إلَّا بالله العَلي العَظيم)..! حَسنًا.. مَاذا بَقي..؟! بقي القَول: إنَّ الدُّعاء تحيّة وتَقدير، ومِن الأدب الجميل والذّوق الأصيل، أن نَختار مِن الدُّعاء أجمله، ومِن الثَّناء أجزله، وهذا يُجبرنا عَلى مُراجعة أثاثنا اللغوي في الدُّعاء، وضَرورة اجتناب المُتشابه مِنه، والملغوص والمَغلوط، مِن أمثال «الله يخلِّيك»، أو الدُّعاء الآخر الذي يَفيض عُنصريّة: «بيّض الله وَجهك»، أو كما يَقول أهل نَجد -عليهم سَحائب الحُبّ- إذا أجاب أحدهم بكلمة «سَمْ»، رَدّ عليه الآخر بقوله: (سَم الله عدوّك)، وعَدو الشَّخص هذا «المَدعو عليه» بأن يُسمّمه الله؛ قد يَكون «مواطنًا صَالحًا»، مِثلي ومِثل أغلب القُرَّاء والقَارئات، مِن الصَّالحين والصَّالحات، وقَد قَال الله -جَلَّ وعَزّ- في كِتَابه: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا).. اللهم جمّل كَلامنا وحسِّنه، كما جمّلت خَلْقنَا وخُلُقنَا..! يا قوم.. لقد امتدح الله -جَلَّ وعَزّ- الذين يَسمعون القَول فيَتّبعون أحسنه، فلماذا التَّردُّد في اختيار الألفاظ؟ ولماذا نَختار مِن الكَلمات أكثرها خيبة، وأقلّها طيبة..؟! كيف نُقبل على الحَشف البَالي، ونَترك الجيّد الغَالي، طَالما أنَّها كَلمات تُمنح وتُكتسب..؟! وقَديمًا قَال أهل الحجاز -عليهم شَآبيب الرَّحمة-: (المَلافظ سَعادة)..!.