كنت قد رصدت خلال ثمان وأربعين ساعة -فقط- ثلاثة مشاهد إعلامية مرئية،زعمت بأهمية دلالاتها وضرورة اقتناصها من الفضاء العام لتكون مادة لموضوع مقاربتي هذا الأسبوع،أولها هو (الأوبريت) الغنائي المسرحي الذي بدأت به فعاليات مهرجان الجنادرية الأربعاء المنصرم غرة ربيع الثاني،وثانيها هو مشهد تلك المداخلة العجيبة للشيخ يوسف الأحمد الذي اقترح بهدم المسجد الحرام سداً لفتنة الاختلاط بين الرجال والنساء على قناة (بداية) الفضائية،وآخرها اللقاء الذي حاور فيه مقدمه (سليمان الهتلان) أديبنا الروائي عبده خال،على قناة الحرة مساء الجمعة الماضية.. وبسبب (الجدولة) التطويرية للصحيفة التي حتمت عليّ المبادرة بإرسال (المقالة) مباشرة لتقديم موعد عرضها في يوم الثلاثاء بدلا عن يوم الخميس المعتاد أذعنت لنداء (التحديث) مقرراً أن أختصر تداعياتي لمشهد واحد (مدمج) تجمعه لوعة المقارنة بين مداخلة (الشيخ) وحوار (عبده خال) بسؤال أظنه حاسماً، ودهشة أزعم أن لها ما يبررها..على النحو الآتي: يأتي صوت الشيخ (يوسف الأحمد) الأستاذ في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية (بالرياض) متوتراً وهو يتداخل مع برنامج ديني على قناة (بداية) الفضائية،متهماً بالنفاق وعدم المعرفة بالقرآن الكريم والدين عامة الذين تحدثوا عن حتمية الاختلاط وأن ليس ثمة أصل ثابت في الشريعة الإسلامية لتحريمه -مفرقين بينه وبين الخلوة التي نبذها الدين العظيم وحذر من تبعاتها السلبية على الأفراد والمجتمعات- وأن هذا الموضوع يظل أمراً هامشياً ومختلفاً عليه في الخطاب الديني الجليل بالمقارنة مع ثوابت دينية قطعية وقضايا ذات أهمية أكبر وتأثير أبلغ على الذهنية الاسلامية في لحظتها الراهنة الزاخرة بالتحديات. وكأني بالشيخ في خطابه الإقصائي الفضائي يؤكد الخطاب الإقصائي ذاته الذي حكم فيه الشيخ سعد البراك -قبل أسبوعين فقط- بالكفر والردة عن الاسلام التي توجب القتل تعزيراً بحق الذين نادوا بسماحة الاسلام الخالص في التعامل الصحيح مع مشاهد الطبيعة الانسانية،التي تتكون في كل مرة من ذكر وأنثى لا يمكن أن نفصل بينهما إلا في لحظة عجيبة كالتي نقرر فيها -كما طرحت سابقا- أن نفصل بين عنصري الأكسجين والهيدروجين في ماء الحياة بحجة أنهما عنصران كيميائيان مختلفان. ولست في صدد الخوض في مسألة الاختلاط،فقد أشبعها المتسامحون والرافضون تعاطياً وكتابة،ولكن الذي أعادني لذلك المربع (الأبدي) من جديد هو علاقته بأمر جلل وهو هدم البيت الحرام،لأبدأ في طرح تجليات سؤال المشهد (العريض) بالأسئلة المؤرقة الآتية: هل (وصلت)؟ هدم بيت الله الحرام! ماذا يشعر المتلقي وهو يسمع الشيخ يقول بكل ثقة «ويش المانع ياخي؟يهدم المسجد الحرام كاملاً ونعيد بناءه بعشرات الأدوار»من أجل القضاء على فوبيا الخوف من تلك المخلوقة المخيفة في الذهنية المتوترة (المرأة) فحسب! كم هي المسافة بين الغايتين شاسعة (جداً) بين هدف ولاة أمرنا حفظهم الله في توسيع الحرمين الشريفين من أجل التوسعة على عباد الله المسلمين،وبين غاية (الشيخ الأحمد) في الهدم الشامل من أجل أهداف (مختلطة) مبتذلة؟ ماذا لو وقفنا موقفاً حازماً من تداعيات هذا الفكر الاقصائي (المتطرف) منذ البداية،على سبيل المثال منذ صدور كتاب (الحداثة في ميزان الاسلام) للشيخ عوض القرني منذ عقدين ونصف من الزمن والذي جرم وكفر العشرات من مثقفينا -الذين هم لدينهم معتزون ولتراث أمتهم مجلون- بدعوى تعاطيهم مع الاتجاهات الثقافية الحديثة في الأدب والنقد وفنونهما؟ ولاشك أن الشيخ (عوض) يفاخر بهذا الكتاب إلى الآن! هل تستمر تلك الأفكار المتطرفة لو أنا تعاملنا بحزم مع الشيخ الأحمد ذاته وهو يقوم بدور المحتسب المهتاج مع مريديه رفضاً وتهديداً وشتماً في معرض الرياض الأخير للكتاب؟ ماذا لو عمل طلاب ومريدو الشيخين -البراك والأحمد- بآرائهم فذهبوا مباشرة لقتل أحد المنتمين إلى المؤسسة الدينية ذاتها والذي قد ذهب إلى إباحة الاختلاط وحتمية وجوده مع وجود البشر على هذه الأرض؟ أو أخذوا مطارقهم وعصيهم وبدأوا في إزالة أول جدران المسجد الحرام؟ ألم يكن كتاب (الشيخ القرني) إياه مرجعاً -إلى الآن- لدى اطياف كثيرة من أفراد مجتمعنا وهم يصفون معظم مثقفينا بالكفر والفسوق بحسب الذهنية الدينية العاطفية التي جعلت هذه المرجعيات مصدر ثقة ومرجع معرفة في كل الأحوال؟ ثم إذا كان ذلك الخطاب الفكري المتزمت قد اندلق من مشايخنا الأعزاء عبر الفضائيات ووسائل الاعلام العامة،فكيف نطمئن إلى ذلك الخطاب وهو يطرح في مكان مغلق عندما يكون الشيخان مع طلابهما في احدى قاعات الجامعة (مثلا) ؟ ماذا عن دور المؤسسة التعليمية العليا التي يعمل فيها الشيخان كأستاذين جامعيين في مناهضة كل فكر (أحادي) (انفعالي) (انطباعي) يتنافى مع شروط العلم الخالص ومنطلقات المنهج الجامعي العلمي الرصين في التعاطي مع المسائل البحثية المتنوعة؟ متى ينتهي هذا المسلسل -المفعم بحكايات القتل والتكفير والهدم- والذي استمر ما يقارب الآن ثلاثين عاماً مهدداً بتشويه صورة الاسلام الحقيقية واستقرار وحضارة الوطن ؟ وأخيرا فهل لا يمثل أبطال ذلك المسلسل إلا أنفسهم حتى لا نعبأ بما يقولون ويفعلون،أم أنهم -فعلاً- ينتمون داخل بلادنا إلى مؤسسة ما.. تيار ما يجب رفضه وإيقاف حلقاته الدموية؟.