للموسيقى أثر بليغ على نفسية الأطفال بل على نفسية البالغين أيضاً. فأي واحد منا لم يلاحظ أحياناً أن حالته النفسية تتغير كلما سمع لحناً وطرب له، أو أغنية من الأغاني التي تنسيه أحزانه، أو ترنم بقصيدة من قصائد الفخر أو الغزل أو غير ذلك مما يثير أشجانه أو حماسته أو بهجته إلخ. فمهما يكن من نوع العاطفة التي تثيرها الموسيقى أو الكلمات المنغمة في نفس السامع، فإن الثابت الأكيد هو أن لهذه المؤثرات السمعية أثراً على الحالة النفسية. وأسطع دليل على ذلك هو الأسلوب الحديث الذي يستعمله أطباء الجهاز العصبي في نطاق ما يسمى اليوم (المداواة النفسية) فإنهم يستعملون الموسيقى بمنزلة (دواء). وزعم بعضهم أن قرحة المعدة نفسها قد تعالج معالجة ناجعة بواسطة الموسيقى!. وإن كان للموسيقى مثل هذا الأثر على الرجل البالغ فإنما أثرها أبلغ وأقوى على الطفل اللطيف حواشي النفسي والسريع الانفعال بالمؤثرات الخارجية. فأي طفل لا ينصرف من حين إلى آخر إلى التنغيم والترتيل؟ بل الرضيع نفسه يحاول أن ينغم فتراه (يناغي) لأمه وهو مضطجع على السرير. وفي جميع بلدان العالم إذا أرادت الأم أن تنوم ابنها فإنها ترفع صوتها بالغناء والتنغيم. الجنين (يسمع) وينفعل بالأصوات! وجد الباحثون أن الإيقاع أو (الترجيع) أي ترداد النغم نفسه في أوقات منتظمة هو الذي يؤثر في المنطقة غير الواعية من النفس فكأن الطرب الناجم عن تناسق الأصوات وعن تخالطها بعضاً ببعض يحول انتباه السامع عن انشغالاته الحاضرة إلى عالم آخر فيغمسه في لجة اللاوعي. فمما لا حظوه مثلاً أن الموسيقى قد تخفف الألم البدني عن الجريح في المستشفى وتمثل دور المادة المخدرة. ولذلك استطاع الأطباء أن يقولوا بغير مبالغة أن الموسيقى خير حصن وخير جدار للوقاية من الأمراض. وليس لها شأن ثقافي فقط بل إنما المجهول عامة هو أن للموسيقى شأناً طبياً أيضاً، إذ تقي الإنسان والطفل خاصة من أمراض كثيرة. ومن أغرب ما اكتشفوه في هذا المضمار أن الجنين يسمع الأصوات وهو في بطن أمه. وفضلاً عن سماعه الأصوات الخارجية، فإنه يسمع دقات قلب أمه وحركات تنفسها. وأثبت خبراء التوليد أن الجنين محتاج إلى هذا (الإيقاع) الداخلي لأنه يجر فيه الطمأنينة والأمان. فقد أجروا الاختبار التالي على الوليد الذي لا يكاد يخرج من بطن أمه حتى يصرخ ويصيح كأنه مذعور مرعوب: اسمعوه بواسطة شريط مسجل، صوت دقات قلب أمه مثلما كان يسمعها عندما كان جنيناً. فذهب عنه الخوف وسكن صراخه وعويله. النغم الموسيقي يعود أذن الطفل على تحمل الضجة لا حاجة إلى تعداد أضرار الصخب العصري والضجة والجلبة المتواصلة. والحال أن تعويد أذن الطفل على الأصوات المتناغمة أي على سماع الموسيقى والأغاني، إنما هو أحسن أسلوب لتسليحه ضد أضرار الضجيج. فإن أذن الطفل إذا لم تألف سماع الأصوات على مراحل، ثم تعرضت بعد ذلك لتكرار هجوم الضجيج الخارجي، فربما اضطرب توازن الطفل العصبي. ومن فوائد الموسيقى أيضاً أنها تصرف نفس الطفل على الغرائز الهجومية وتخفف حدة شراسته الطبيعية. وبهذا المعنى قالوا منذ القديم أن الموسيقى تلطف الأخلاق. بل قال أحد حكماء الصين قديماً: - إذا أردت أن تعرف حالة الرعية في بلد ما وحقيقة أخلاق الناس، فاسمع أغانيهم وطريقتهم في الترنيم! ويسعنا أن نضيف في ضوء المكتشفات الطبية الحديثة: الصحة السليمة في الغناء والطرب.