لم أكن أحلم يوماً من الأيام أن آتي إلى هذا المكان.. كل ما فيه كان غريباً فعيناي تحملقان فيما هو حولي فأستغرب. فلقد رأيت أشياء كثيرة، مثيرة للدهشة والحيرة فامرأة ارتسم على وجهها البؤس والفقر تمشي في الأزقة حاملة خلفها طفلاً صغيراً لم أرَ منه إلا رأسه وقد تأبطته شراً.. وأنا أجزم أنه لا يعلم أين سيتناول وجبته المفضلة (الفاست فود). هل هي عند السيد درويش أم بيت المعلم برعي أم شقة الحجة فاطمة؟ فعلى ما يبدو أنَّ أمه تمتهن خدمة الناس وهو يذهب معها لأجل التسلية!! كما سمعت!! قد تستغربون من أين سمعت؟! ولكني بعدما غاب عن ناظري منظر الأم وابنها.. وجدت نفسي أقف على باب قهوة صابر بيه على سن ورمح لا أعلم ان كان اسم ابيه سناً ورمحاً، ام انه وضعها لزوم (الكشخة)، لقد قرأت اسم صابر بيه على اللوحة في أعلى المحل، وقد كتبت بخط رديء لا تعلم الدال من الراء! لقد كان لونها باهتاً قديماً، يدل ان عمرها عشرات السنين. وقد اجتمع في تلك القهوة مجموعة من كبار السن لم يلفت نظري منهم إلا ثلاثة تحلقوا على (طربيزة) خشبية قديمة مليئة بالتشققات وفوقها طاولة صغيرة هي أشبه بالصندوق يلعبون فيها الشيش أو البيش. هكذا سمعتهم يقولون. اثنان كانا يلعبان، أما أحدهم فيبدو انه أكبرهم فقد تسلل الشيب إلى شعر رأسه الجانبي (لأنه لا وجود للشعر في وسط رأسه) فقد اكتفى بمتابعة المباراة الساخنة بضحكات صاخبة. بعد هذا شعرت ان قدمي تسوقني إلى مكان!! لا أعلم أين أسير؟! لكني لم أشعر إلا وأنا قائم أمام إحدى البنايات القديمة وأحدهم ترك نافذته مفتوحة والموسيقى الشرقية تنبعث منها، وأنا أسفل منها مغمض عيني وأحرك رأسي طرباً وأشعر أني متدله بهذه الاغنية وأنا قائم في منتصف الحارة، أعيش لحظات جميلة، لم يوقظني منها إلا منبه سيارة بيضاء قديمة كان يقودها سائق للبيه الكبير. أفسحت لها الطريق وعيناي تنظران الغبار الذي تنثره السيارة القديمة، تسخطت في نفسي لكني لم أجد بداً من أن استريح قليلاً أمام كشك صغير، أرقب المارة بالدراجة، ومن يشتري من عطارة (ادفع اكثر تطيب بسرعة) ومكتبة (باي باي علم) وصالون (صلعة 2000) هكذا كتبت..!! وبعد فترة وجيزة حدث ما لم يكن في الحسبان.. رأيت من حولي أناساً أصابتهم حالة غريبة. كل منهم بدأ في التسابق إلى مدخل ضيق في أسفل الحارة.. شعرت انه زلزال أو سباق جري.. أو.. أو.. بدأت الأفكار تموج في رأسي بجنون، حملت نفسي وبدأت أركض لا أعلم لماذا!! لكني ركضت معهم وعندما توقف المسير عند المدخل الضيق الذي احتشد به عشرات الناس استوقفت رجلاً كبيراً يلبس معطفاً أحمر وشعره مائل إلى الذهبي ويبدو انه رجل مهيب سألته إلى أين هؤلاء الناس ذاهبون؟ قال: ألا تعلم؟ إذن ما الذي جاء بك؟! عندها شعرت بالخجل ثم طردته عن محياي وقلت: رأيتهم يركضون فتبعتهم!! ثم قال: ألا تعلم أن اليوم هو السادس عشر من شهر مارس؟ والتوقيت هو الرابعة عصراً؟ قلت: وأيه وماذا يعني؟ عندها رمقني الرجل بنظرة لها ألف معنى ثم قال: اليوم هو حفلة ثومة.. ثومة من ثومة؟!! عندها قال لي: هل أنت جاد انك لا تعرف ثومة؟! شعرت ان كلامه يجبرني ان ادعي انني أعرفها فقلت بابتسامة باهتة.. بلى! أعرفها.. انها ممثلة بارعة!! لقد كان فيلمها الأخير رائع. قلتها بملء فمي.. وبدأت امتدحها وما كان ليسكتني إلا ضحكاته الساخرة التي شدت انتباه الناس.. عندها تمنيت لو أقص لسان هذا العجوز الذي فضحني أمام الناس. وما كان منه إلا أن أعلن الحقيقة الناصعة البياض ان ثومة يا ابني مغنية، إنها أم كلثوم.