يهتم مؤرخو نجد القدامى برصد الأحداث المهمة في حياتهم، مما يوضح صورة المجتمع في ذلك الوقت، وتعمير المدن من أهم أحداثهم، وقد أولى المؤرخ إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1343ه، في مخطوطاته التاريخية تعمير المدن، ورصد تواريخها جانباً من لفتاته لأن ذلك يلقى اهتماماً من ساكني تلك المدن والقرى، وخاصة في مثل هذه السنوات التي عمّ فيها الأمن، واتساع نطاق التعليم بين البادية والحاضرة، ونزولاً عند رغبة كثير من القراء كان هذا الحديث. ومع إشراقة شمس عام هجري جديد، سوف نسير خطوات مع ابن عيسى في مخطوطته التاريخية، وما اهتم به من رصد عن المدن والبلدات، في وسط بلادنا الواسعة.. وذلك اجابة لمطلب بعض الشباب, عندما أبنت في حديث بأحد المجالس، عن بدايات التّعمير لمدن أصبحت قرى، وقرى نمت وكبرت فأصبحت مدناً وحواضر، ذلك أن أعمار المدن، والثروة أو الفقر في بعض البيوت، مثل أعمار الإنسان: طفولة ثم شباب، وكهولة ثم شيخوخة، وفناء والبقاء لله سبحانه. ويضع- رحمه الله- سبب التعمير إذا تيسر لديه. وقد سمى ابن عيسى بعضاً من أسماء المؤرخين الذين نقل عنهم، وهذا من الأمانة العلمية، أمثال أحمد بن محمد بن بسام الذي بدأ تاريخه من عام 1015ه هو عام انتقاله من ملهم إلى العيينة عام 1039ه أي قبل وفاته بعام، وتاريخ أحمد بن منقور ساكن بلد الجبيلة سنة 1048ه إلى سنة وفاته بحوطة سدير 1125ه. وتاريخ محمد بن يوسف من أهل أشيقر، وتاريخ حمد بن لعبون، ساكن بلد التّويم، ثم تاريخ ابن بشر وزاد على هذه التواريخ بما رأى وما سمع من ثقات أهل عصره، ثم قال: وما رأيت في هذه النبذة، فإني لم أذكره إلاّ بعد الخبر والتحقيق، والبحث والتدقيق، في التواريخ المذكورة وغيرها، ولم أذكر في هذه النبذة إلاّ ولي فيه مستند، والعهدة على ما ذكرت، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب (ص 27 - 24). وهذا من اهتمامه وحرصه على التوثيق فيما يطرح أمام القراء، ولئلا يتهم بالتّساهل وعدم الدقة. يقول: في سنة سبعمائة تقريباً: عمر بلدة التويم في سدير، عمرها مدلج بن حسين الوائلي وبنوه وعشيرته- وذلك أن بني وائل حين كثروا في بلدة أشيقر، خافوا منهم الوهبة أهل أشيقر، أن يغلبوهم على بلدهم، فتمالوا على إجلائهم، بلا تعدّ عليهم في دم ولا مال. وكان أهل أشيقر قد قسموا البلد قسمين: يوم يخرجون الوهبة بأنعامهم وسوانيهم للمرعى، ومعهم سلاحهم، وذلك أيام الربيع، ويقعد بنو وائل وهم جيران لهم - يعني جيران للوهبة - يسقون زروعهم ونخيلهم، ويوم يخرج فيه بنو وائل، بأنعامهم وسوانيهم، ويقعدون الوهبة يسقون زروعهم ونخيلهم. فقال بعض الوهبة: إن الرأي إذا كان اليوم الذي يخرج فيه بنو وائل للمرعى، وانتصف النهار، وأخرجنا نساءهم وأولادهم، وما هو خفيف من أموالهم خارج البلد، وأغلقنا أبواب البلد دونهم، وأخذنا سلاحنا وجعلنا في برج البلد بواردنه، يحفظون البلد ببنادقهم، فإذا رجع بنو وائل آخر النهار، منعناهم من الدخول ففعلوا ذلك. فلما كان آخر النهار، وأقبل بنو وائل منعوهم من الدخول، وقالوا لهم: هذه أموالكم وأولادكم ونساؤكم، قد أخرجناها لكم، وليس لنا في شيء من ذلك طمع، وإنما نخاف من شرور تقع بيننا وبينكم، فارتحلوا عن بلدنا مادام نحن وإياكم أصحاب، ومن له زرع فيوكل وكيلاً عليه منا، ونحن نقوم بسقيه حتى يحصد، وأما بيوتكم ونخيلكم، فكلّ يختار له وكيلاً منّا، ويوكله على ماله، فإذا سكنتم في أي بلد، فمن أراد القدوم إلى بلادنا لبيع عقاره فليقدم، وليس عليه بأس، وليس لنا طمع في أموالكم، وإنما ذلك خوفاً منكم أن تملكوا بلدنا وتغلبوننا عليها.. فتم الأمر بينهم على ذلك. ثم رحل بنو وائل: مدلج بن حسين وبنوه، وجدّ آل ابو ربّاع أهل حريملاء، وسليم جدّ آل هويمل، الذين منهم آل عُبَيْد، المعروفون في التويم، والقصارى المعروفون في الشقة من قرى القصيم، وآل نصر الله المعروفون في الزبير، وآل هويمل المذكورون: من آل أبورباع، من آل حسين، من آل بشر عنزة، ضاحت جدّ آل ضاحت المعروفون من وهب، من النويطات من عنزة، فاستوطنوا بلد التويم. وكانت بلد التويم قبل ذلك، قد استوطنها ناس من عائذ بن سعيد، بادية وحاضرة، ثم إنهم جلوا عنها ودمرت، فعمرها بنو وائل المذكورون، ونزل آل حمد وآل أبو رباع في حلة. - وفي أحداث عام 770 ه قال: وفي سنة سبعين وسبعمائة تقريباً عمرت بلد حرمة المعروفة، عمرها إبراهيم ابن حسين بن مدلج الوائلي، وذلك أن إبراهيم المذكور: انتقل من التويم إلى موضع بلد حرمة، وهي مياه وآبار منازل قد تعطلت من منازل بني عائذ بن سعيد، فعمرها وغرسها هو وبنوه، ونزل عنده كثير من قرابته وأتباعه. - وفي أحداث 820 ه قال: وفي سنة عشرين وثمانمائة: عمرت بلد المجمعة المعروفة، عمرها عبد الله الشمري، من آل ميبار من عبدة من شمر، وكان عبد الله الشمري هذا، مداوياً عند حسين بن مدلج، رئيس بلد التويم، فلما مات حسين، قدم عبد الله الشمري على ابنه إبراهيم بن حسين في بلد حرمة، فطلب منه قطعة من الأرض لينزلها ويغرسها هو وأولاده. فأشار أولاد إبراهيم على أبيهم أن يجعله أعلى الوادي، لئلا يحول بينهم وبين سعة الفلاة والمرعى، فأعطاه موضع بلد المجمعة. وصار كلّما حضر أحد من بني وائل، وطلب من إبراهيم بن حسين، ومن أولاده النزول عندهم، أمروه أن ينزل عند عبد الله الشمري، طلباً للسعة، وخوفاً من التضييق عليهم في منزل وحرث وفلاة، ولم يخطر ببالهم العواقب. وأن أولاد عبد الله الشمري وجيرانهم سينازعونهم بعد ذلك ويحاربونهم، فيكون من ضموه إليهم تقوية لهم عليهم فأتاهم جدّ التواجر المعروفين، من بنى وهب من النويطات من عنزة وجدّ آل بدر وهو من آل أجلاس من عنزة، وجدّ آل سحيم من الجبلان من عنزة، وجدّ الثماري من زغب وغيرهم، فأنزلوهم عند عبدالله الشمري، فعمروا بلد المجمعة وغرسوها، وتداول رئاسة المجمعة ذرية الشمري، إلى أن ضعفوا وغلبهم عليها آل عسكر وهم رؤساء المجمعة اليوم - يريد وقت تحرير تاريخه هذا - ، وهم من البدور من عنزة، ومن ذرية عبد الله الشمري المذكور: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن يوسف بن عبد الله الشمري، العالم المشهور في المدينةالمنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. (للحديث صلة) حيل المتطبّبين: ذكر ابن الجوزي في كتابه الأذكياء أن حائكاً مرّ بطبيب، فرآه يصف لهذا النقوع، ولهذا التمرهندي.فقال: الأمر هيّن، فرجع إلى زوجته، فقال: اجعلي عمامتي كبيرة، فقالت: ويحك ما الذي طرأ لك؟ قال: أريد أن أكون طبيباً، قالت: لا تفعل، فإنك تقتل الناس فيقتلوك. قال: لابدّ. فخرج أول يوم، فقعد يصف للناس، فحصّل قراريط. فجاء إلى زوجته، وقال لها: أنا كنت أعمل كل يوم بحبة، فانظري ماذا حصل. فقالت: لا تفعل. قال: لابدّ. فلما كان في اليوم الثاني، اجتازت جارية، فقالت لسيدتها، وكانت شديدة المرض، اشتهيت هذا الطبيب الجديد، يداويك. قالت: ابعثي إليه، فجاء وكانت المريضة قد انتهى مرضها، ومعها ضعف، فقال: علي بدجاجة مطبوخة، فجيء بها فأكلت فقويت، ثم استقامت، فبلغ هذا إلى السلطان، فجاء به فشكا إليه مرضاً يشتكيه، فاتفق أنه وصف له شيئاً صلح به، فاجتمع إلى السلطان من يعرفون ذلك الحائك، فقالوا له: هذا رجل حائك لا يدري شيئاً، فقال السلطان: هذا قد صلحت على يديه، وصلحت الجارية على يديه، فلا أقبل قولكم.قالوا: فنجربه بمسائل؟ قال: افعلوا. فوضعوا له مسائل وسألوه عنها: فقال: إن أجبتكم عن هذه المسائل، لم تعلموا جوابها، لأن الجواب لا يعرفه إلاّ طبيب، ولكن أليس عندكم مارستان؟ قالوا: بلى. قال: فأنا أداويهم، حتى ينهض الكلّ في عافية، في ساعة واحدة. فهل يكون دليل على علمي أقوى من هذا؟ قالوا: لا. فجاء إلى باب المارستان، وقال: اقعدوا لا يدخل معي أحد، ثم دخل وحده، وليس معه إلاّ قيمّ المارستان، فقال للقيم: إنك والله إن تحدثت بما أعمل صلبتك، وإن سكتّ أغنيتك. قال: ما أنطق. قال: فاحلف بالطلاق، فحلف له. ثم قال: عندك في هذا المارستان - المستشفى - زيت؟ قال:نعم. قال: هاته. فجاء منه بشيء كثير، فصبه في قدر كبير، ثم أوقد تحته ناراً، فلما اشتد غليانه، صاح بجماعة المرضى، فقال لأحدهم: إنه لا يصلح لمرضك إلاّ أن تنزل إلى هذا القدر، فتقعد في هذا الزيت، فقال المريض: الله الله في أمري، قال: لابدّ. قال: أنا قد شفيت، وإنما كان بي قليل من الصداع، قال: لماذا تقعد وأنت معافى. قال: لا شيء. قال: فاخرج وأخبرهم، فخرج يعدو ويقول: شفيت بإقبال هذا الحكيم، ثم جاء إلى آخر فقال: لا يصلح لمرضك إلاّ أن تقعد في هذا الزيت، فقال: أنا في عافية، قال: لابدّ. قال: لا تفعل فإني قد أردت أن اخرج من أمس. قال: فإن كنت في عافية، فاخرج وأخبر الناس بذلك. فخرج يعدو، ويقول: شفيت ببركة هذا الحكيم، ومازال على هذا الوصف، حتى أخرج الكل شاكرين له، والله الموفق (127 - 128).