أنت الآن جالس في قاعة انتظار، تعاني مشكلات في الأسنان، وتنتظر دورك للدخول على الطبيب ليفحص أسنانك، ربما ضرس العقل. أنت تجلس تتصفح هاتفك المحمول، تصلك رسالة من صديق عبر إحدى قنوات التواصل الاجتماعي، تقرؤها، تبتسم قليلاً، ثم تعلق مستخدمًا الرموز التعبيرية، ثلاثة وجوه ضاحكة، يرسل آخر مقطعًا صوتيًّا، تستمع إليه عبر سماعة الأذن غير المرئية التي تتصل بجهازك لاسلكيًّا. لم يعجبك المقطع؛ تغلقه، تغلق جهاز هاتفك المحمول، وتمارس الانتظار. أنت تجلس في غرفة صغيرة، جدرانها بيضاء، معلق على جزء منها لوحات إرشادية للعناية بنظافة الفم والأسنان. ومجموعة من المقاعد، على شكل أشبه بثلاثة أضلاع من مستطيل. في الجانب الأيمن بابان، وبينهما مكتب استقبال صغير، لا يوجد خلفه أحد. الباب الذي على يمين المكتب مغلق حيث توجد غرفة الكشف، والباب الذي على يسار المكتب يفضي إلى صالة كبيرة حيث يوجد مكتب الاستقبال. وغرفة خاصة لانتظار النساء، ومجموعة من الغرف الأخرى. كل ذلك لا يعنيك. قبلك ثلاثة رجال؛ سبقوك بالوصول إلى هذا المكان، وأنت تنتظر الوقت الذي تدخل به على الطبيب؛ ليجد حلاً لذلك الألم الذي لم يجعلك تنام بصورة جيدة. مللتَ من تصفُّح هاتفك المحمول، وليس لديك رغبة في أن تتحدث مع أحد، وليس لديك رغبة في أن تتابع مسلسلاً أيضًا عبر هاتفك المحمول، وليس هنالك جهاز تلفزيون معلق على جدار الغرفة لمتابعته. أنت محاصَر بالصمت وبياض الجدران. أمامك طاولة صغيرة، عليها بعض النشرات الإرشادية، وبعض مجلات التسالي. أمسكتَ بواحدة منها، قلتَ في داخلك: «يا الله.. لقد توقعت أنها انقرضت». منذ زمن طويل لم تشاهد الكلمات المتقاطعة، ولا الكلمة الناقصة أو السرية، ولا ألغاز الأرقام، ولا كل ما يحتاج إلى قلم لتعبئته وتضييع الوقت بحل لغزه. ليس معك قلم؛ تقف وتجد قلمًا على الطاولة التي تقع بين البابين؛ تأخذه، وتقلب صفحات مجلة التسالي. أغلبها تمت تعبئته، ويوجد «خربشات»، وخطوط ببعض الأقلام، وعلى الغلاف الخلفي مجموعة خطوط بأقلام حبر ناشف زرقاء؛ غالبًا هنالك مَن يحمل قلمًا، ويفاجَأ بأنه لا يكتب. لحسن الحظ أن القلم الذي معك يكتب؛ إذ قمت بتجربته على ورقة على المكتب قبل أن تأخذه. تجد صفحة بها كلمات متقاطعة، كُتب بعض الكلمات فيها، ثم لم تُستكمل؛ ربما الذي كان يتسلى بها وصله الدور لدى الطبيب؛ وتركها. تقرأ الكلمات، عموديًّا: نخلة، واشنطن، سرير، الرازي. وتقرأ أفقيًّا: بوصلة، شمس، أرخميدس، فريد شوقي. توجد فراغات كثيرة، تحتاج إلى وضع حروف بداخلها؛ لتكون كلمات. تختار السطر الخامس أفقيًّا. كلمة من ستة أحرف من الزهور، تبدأ بحرف الياء. تستعرض بذهنك جميع أنواع الزهور، ثم تتذكر بيت صديق لك، تقوم بزيارته أحيانًا، وتشم عبق الياسمين عند مدخل البيت، فتكتب مباشرة ياسمين. تغريك مربعات تشكِّل تسعة أحرف؛ لتجد أن الكلمة المطلوبة رئيس أمريكي سابق. تعد حروف باراك أوباما فتجدها عشرة، وجورج بوشسبعة أحرف، فتكتب مباشرة بعد أن تتأكد من العد: جيمي كارتر. تشعر بنشوة عندما رأيتَ الأحرف داخل المربعات. يأتيك اتصال عبر هاتفك، ليس مهمًّا؛ تكتم صوت الهاتف، وتقرر ألا ترد. تشعر بأنك عدت سنوات ليست كثيرة للوراء. هدوء، وعالم تملكه أنت، لا حصار، ومتعة تجعل ذهنك يعمل. لست فقط متلقيًا سلبيًّا. بقي واحد من الرجال، وبعد ذلك يأتي دورك، وجاء بعدك رجلان، كل واحد ممسكٌ بهاتفه المحمول، أحدهما على أعتاب الشباب، منهمك بممارسة لعبة إلكترونية، أما الآخر فيقرأ، ربما مقالاً أو كتابًا. عمومًا، يتضح من بعيد أن الشاشة وإن كانت غير واضحة تمامًا عبارة عن خطوط متساوية، غالبًا أسطر. أنت الآن في الانتظار؛ لا أحد قبلك؛ تنتظر أن ينادَى على اسمك، مستمتع بحل الكلمات المتقاطعة، وترغب في أن تُكملها. تختار السطر الرابع أفقيًّا: أحد الوالدين من حرفَيْن. تحتار بين أب أو أُمّ. ينادَى على اسمك للتوجه لغرفة الفحص؛ تترك المجلة الورقية على مقعدك مقررًا العودة بعد الخروج من عند الطبيب، وتكملة الفراغات الناقصة. لن أتحدث عما حدث لك عند طبيب الأسنان؛ لأن ذلك يخصك تمامًا، ولكن عمومًا خرجت بعد أن خلع الطبيب ضرس العقل. اتجهت إلى المقعد الذي كنت تجلس عليه. لم يأخذ أحد المجلة لحسن الحظ. هنالك مجموعة من الرجال بأعمار مختلفة، يجلسون على المقاعد. تجلس في مكانك السابق، وتبدأ بتصفح مجلة التسالي. تجد أن الصفحات بيضاء، والمجلة أشبه بكراسة رسم لم تُستعمل.